سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

عاش بكنيته

في غياب سامي شرف يغيب آخر الناصريين الذين عرفوا الزعيم المصري وعملوا معه، وكان أقربهم إليه وأمين أسراره وحارس آثاره. الغائب عاش في شرف سنواته الأخيرة على حافة الفقر، يتولى منفرداً الرد على خصوم الناصرية وناقديها، والمرتدين عنها. وكنت مرة بين هؤلاء وقد أثار فيّ رده الاحترام الشديد والإعجاب بمناقبه الأدبية ومستواه في التفاعل مع الذين يختلف معهم. وكانت تلك مناسبة آنذاك لأن أكتب إليه رسالة خاصة، بالإضافة إلى هذه الزاوية.
يومها خطر لي أن هذا هو المستوى الوحيد المقبول في النقاش، سواء حول الزعيم المصري، أو سواه، ممن كانوا قادة كباراً، ورؤساء مخلصين، وأيضاً، بشراً يخطئون ويصيبون. للأسف هبط بعض السوقيين بهذا المستوى الرفيع. وكلفوا أنفسهم من دون تكليف الدفاع عمن يرونه معادياً للناصرية. وأصدر أحدهم قراراً بتعيين نفسه رئيساً لمفرزة تُذكّر بأيام «إسماعيل ياسين في البوليس». مع العلم طبعاً، أن الكوميدي الكبير كان يضحك الناس ويبهجها ويمثل الظرف والناس الذين أحبوا عبد الناصر من عمق قلوبهم وليس من فوهتي مناخيرهم. فالشاويش إسماعيل ياسين كان أكثر معرفة بالناس، وأكثر حرصاً على خلقه قبل أخلاق الآخرين.
ليس من العدل المقارنة بين سيرة سامي شرف والزقاقية، اللغة الشارعية والضحالة الفكرية، ومن هؤلاء من نسب إليّ نصاً لا علاقة لي به، وراح يثور ويفور ويناطح شرشفاً أحمر. والمضحك أن النص الذي نسبه إليّ كان مأخوذاً من سيد الكتّاب نجيب محفوظ. لكن عمى صاحبنا حال دونه ودون رؤية الأهلّة التي وُضع النص ضمنها.
وفي مرة أخرى، شتمني شتّام لا مهنة أخرى له، بداعي أنني مدحتُ عبد الناصر، ثم عدت إلى انتقاده. وينطبق ذلك على ملايين العرب الذين كانوا يتمنّون أن ينصرف عبد الناصر في مقدرته العظيمة إلى بناء مصر وإنقاذ فقرائها.
هؤلاء الملايين هم أيضاً الذين صفقوا لعبد الناصر في طريقه إلى فلسطين وخلفه الجماهير العربية برمّتها، لكنهم وجدوا أنفسهم محزونين يوم صار 5 يونيو (حزيران) 1967 وصمة مبكية في تاريخ العرب.
وأغتنم هذه المناسبة لكي أحقق حلم بعض الشيوعيين اللبنانيين الذين لا يكفّون عن الصراخ بأنني أكتب ضد الشيوعية بأوامر. العمى بلاء. فأنا منذ 50 عاماً لم آت يوماً على ذكر الشيوعية، بل حاربت ولا أزال، وسأبقى، ضد طغاتها ومجرميها وتُفهائها، مثلما حاربت طغاة الرأسمالية والفاشية والوثنية الهتلرية، وجميع أشكال الظلم الذي يتعبد له ذوو العقم الأخلاقي والعدمية الإنسانية. ولم ينتقد هؤلاء مرة واحدة ما أكتبه عن أصدقائي من زعماء الحزب الشيوعي، وخصوصاً تلك المودّة التي ربطتني بمنظم العمل الشيوعي محسن إبراهيم.
أنا أعتذر لأنني لا يمكن أن أفي بشروط هؤلاء، والقاضية بأن يكون الإنسان مصنوعاً من الإسمنت المسلّح يقرأ طوال حياته الصواب والخطأ في سطر واحد، ولا يرى في الآخر إلا عدواً يجب مقاتلته. ويرى في إعادة النظر بأخطائه وأخطاء سواه خيانة لفكر الثكنات العسكرية والأحزاب التي يبرّر قادتها ومفكروها المجازر الجماعية على أنها حتمية نضالية. إن النضال الوحيد هو الإنسان، وأعداء البشر هم المرضى من أمثال لافرنتي بيريا في المقارنة مع يوري أندروبوف، الذي شغل المنصب نفسه، وكان من أرقى الشيوعيين وأكثرهم نبلاً، خصوصاً بالنسبة إلينا من خلال مواقفه الذهبية حيال القضية الفلسطينية.