سليمان الحربش
TT

السعوديون ورئاسة المنظمات الدولية

قضيت خمسة عشر عاماً مديراً عامّاً لمنظمةٍ دولية هي صندوق أوبك للتنمية الدولية (OFID) في فيينا، وخرجت منها بتجربة لم أكن أحسب أنها تستحق التنويه لولا ما سمعت من لغطٍ في فيينا هذه الأيام عن مقدرة العنصر الوطني للتصدي لمسؤولية بهذا الحجم والنوع !!
سافرت الى فيينا في شهر نوفمبر من عام 2003 وفي جعبتي بعض الأدوات التي ساعدتني على اجتياز الامتحان الصعب ومنها:
1- البرقية التي وافق فيها الملك فهد رحمه الله على ترشيحي وفيها يتساءل عن تلك المنظمة وعن الدول التي استفادت من مساعداتها. وفي البرقية يعزو الجهل بالصندوق الى قصور النشاط الإعلامي في «أوبك».
2- البرقية التي يقترح فيها وزير المالية على وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء بعض الأفكار نواةً لحملة إعلامية غير مسبوقه.
3- تجربة دامت أربعين عاماً في وزارة البترول والثروة المعدنية كنت خلالها قريباً من مولد الحدث، شهدت خلالها دور القيادة السعودية في رسم السياسة البترولية خصوصاً بعد تعييني محافظاً للسعودية في منظمة «أوبك» لمدة أربعة عشر عاما.
4- العمل مع ثلاثة من الوزراء الذين سبقوني في العمل الحكومي وقد اكتسبت دروساً من بعضهم، كما أخذت عبرة من البعض الآخر.
5- تتصدر السعودية قائمة المساهمين في صندوق «أوبك» بما يزيد على الثلث؛ وهذا يعني ان كل دولار يصرفه الصندوق - أوفيد فيما بعد - على برامج التنمية في الدول المستفيدة تتحمل المملكة ثلاثين سنتاً منه على الأقل؛ كما يعني ان المملكة تحظى بمكانة خاصة ترتب عليها مسؤولية خاصة، ومن ذلك إن أي نقد يوجه للصندوق أداء وسلوكاً يمسّ المملكة بشكل أو بآخر مهما كبر أو صغر؛ هذا النقد وبصرف النظر عن صحته من خطئه، وهذا يحتم شروطاً معينة عند اختيار من يعملون في الصندوق أو من يمثلون المملكة في أجهزة الصندوق.
6- التفاهم الضمني بيني وبين الدكتور إبراهيم العساف وزير المالية السابق على التشاور معه إذا دعت الحاجة وهي رخصة لجأت اليها مرتين او ثلاث فقط طيلة خمسة عشر عاما.
7- كتاب عن أساسيات القيادة عرفت من أحد المتخصصين في الموارد البشريه أنه من أفضل ما صدر عن الفرق بين الإدارة والقيادة. وأن من خصائص هذه: الأصالة في التفكير والابتكار والبحث عن المواهب بين العاملين وهي أمور لا تحظى بالصدارة عند المديرين.
سلمت مهام عملي في وزارة البترول لمن خلفني واستقلت من رئاسة مجالس ادارة الشركات الثلاث التي كنت على سدتها، ولم يكن من الممكن بل لم يكن من اللائق ان أشارك في مداولاتها من فيينا؛ إذ ان ما أنيط بي من مسؤوليات جديدة تفترض التفرغ التام.
وعندما تسلّمت مهام منصبي أوائل نوفمبر(تشرين الثاني) عام 2003 وجدت أمامي الحقائق التالية :
1- بيان القمة الأولى التى عقدتها «أوبك» في الجزائر مطلع عام 1975 وفيه وضعت البذرة الأولى للصندوق عندما تعهدت دول أوبك بمد يد العون لبقية الدول النامية، ثم قرار إنشاء الصندوق في 28 يناير(كانون الثاني) 1976؛ والذي يصادف هذا الأسبوع مرور سبعة واربعين عاماً على إنشائه، ويشرّفني أن أنوّه بأنني كنت حاضراً تلك القمه مع وفد المملكة برئاسة الراحل الملك فهد بن عبد العزيز قبل اعتلائه العرش.
2- النظام الأساسي للصندوق وهو ينص في ديباجته على تبعية الصندوق للدول الأعضاء في «أوبك» مما ينفي أي فهم خاطئ عن تبعية الصندوق للمنظمة بأي شكل كان.
3- المادة 3 من النظام الأساسي وهي تحصر المستفيدين من برامج الصندوق بالدول النامية غير الأعضاء في «أوبك»، ثم في الفقرة الثانية من نفس المادة النص على إعطاء أهمية خاصه للدول الأقل نموا ً.
4- المادة الخامسة حول التوظيف وصلاحيات المدير العام، والنص على حصر الوظائف العليا لمواطني الدول الأعضاء.
5- عمالة تنتمي لأربعين ثقافة مختلفة وصل عددهم لحوالى مأتين في آخر سنة لي، نصفها من الإناث.
في هذه الأجواء بدأت مهمتي، وجدت رأس الحربه ثلاثة من كبار الموظفين ينتمون الى ثلاث جنسيات مختلفة هي الجزائر و إيران ونيجيريا، هؤلاء يديرون ما يزيد على سبعة بلايين دولار هي رأس مال الصندوق. ولم يكن للسعوديين او الخليجيين شأن يذكر في المناصب العليا إلا فيما بعد.
وبدلاً من القيام بحملة تطهير لا مبرر لها كما يفعل بعض المسؤولين في الدول النامية، وجدت ان الثلاثة المذكورين على درجة عالية من الأمانة والولاء والخبرة استملتهم الى جانبي وكانوا خير عون على تنفيذ الاستراتيجية الجديدة التي نقلت أوفيد الى دائرة الضوء كما يعلم كل من تابع تلك الفتره في 2018-2003 في فيينا والرياض.
كان واضحاً أن هذه المؤسسة بكل ما تمثله من رسالة نبيلة لم يسمع بها الملك فهد رحمه الله تحتاج الى تلاقي عنصرين لا غنى لاحدهما عن الآخر؛ أحدهما رؤية سياسية، وقيادة تواكب هذا العصر وشروطه.
فكرنا في البداية ان نستعين بخبرة أجنبية، لكن اتضح لي منذ الوهلة الأولى ان فاقد الشيء لا يعطيه.
بدأت أضع اللبنة الأولى لأول حملة إعلامية تنفيذاً للأمر السامي. ولخيبة أملي وجدت مقاومة من الزملاء الذين يخيم عليهم شعار «إياك ان تخرق السفينة» او Do not rock the boat . ولحسن الحظ ورد إلينا بريد فتحناه بالخطأ واكتشفنا أن أحد الجيران لديه شركة باسم صندوق الأوبك «وربما صحت الأجسام بالعلل» تظلمنا عند وزارة الخارجية النمساوية فأفادونا على الفور أننا في الصندوق لا شعار لنا مثل منظمة «أوبك» وكل ما لدينا هو شعار من ابتكارنا خليط من شعار البنك الدولي ومنظمة أوبك، عندها أسقط في يد الزملاء المتحفظين وشرعنا في وضع الشعار الرسمي الذي كان يعلو مدخل المقر وتتلوه عبارة «متحدون ضد الفقر»، وبدأنا نروّج للاسم المختصر الذي صرنا نعرف به وهو أوفيد OFID؛ وهي الحروف الأولى من اسم الصندوق باللغة الانجليزية، هذا الاسم استخدمه ملوك ورؤساء أوبك أكثر من مرة في بيانهم الختامي في القمة الثالثة التي استضافتها المملكة بنوفمبر 2007، ثم شرعنا في تنفيذ الحملة الإعلامية التي أخذت عدة صور بموافقة مجلس المحافظين والمجلس الوزاري، ومن ذلك الإصدارات الجديدة والمؤتمرات الصحفية والمقابلات التلفزيونية باللغتين العربية والانجليزية، واستضافة المناسبات الثقافية للدول الأعضاء وتوقيع مذكرات التفاهم مع مؤسسات التنمية وعلى رأسها البنك الدولي والتوقيع على اتفاقيات المشاريع في عواصم الدول المستفيدة. صاحب ذلك توسيع نشاط أوفيد وتنويع منتجاته، وفصل القطاع الخاص عن القطاع العام، وتفعيل ادارة التخطيط الاستراتيجي والاعتماد على برنامج المنح للتعريف بالصندوق وأهدافه، ومن ذلك الاهتمام ببرامج فلسطين وحسابها الخاص ومكافحة بعض الأمراض السارية في أفريقيا وآسيا والتحالف مع منظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات ذات الطابع الإنساني، وتخصيص جائزة سنوية بمبلغ مائة ألف دولار استفاد منها على سبيل المثال عدد من الجهات؛ منها أسر الأسرى الفلسطينيين، ومراكز مكافحة السرطان في مصر والأردن والفتاة الباكستانية ملالا وأطفال غزه وبنك الفقراء في بنجلادش، ولا يفوتني أن أنوّه بالشراكة التي نشأت بين أوفيد والوكالة الدولية لاقتصاديي الطاقة التي ستعقد اجتماعها الرابع والأربعين في مركز الملك عبدالله للاستشارات البترولية في الرياض خلال الأسبوع الأول من شهر فبراير(شباط). وتجدر الاشارة الى ان ما صرف على المنح لا يتعدى نسبة ضئيلة من صافي ربح العمليات والاستثمار ضمن معادلة اقترحها ممثل المملكة في مجلس المحافظين.
صاحب ذلك عدة جهود لتعميق روح الانتماء بين الموظفين الذين آمنوا بالرسالة النبيلة التي تضطلع بها المنظمة التي ينتمون إليها، يعزز ذلك ما قدمناه لهم من حوافز لم تكن في الحسبان.
وفي فيينا عرفت أوساط المدينة ما هو أوفيد عن طريق بعض الانشطة والمشاريع مثل المشاركة في السباق السنوي «الماراثون»، ورعاية بعض أنشطة الأطفال الموسيقية. وترسخت صورة أوفيد عند الأوساط الثقافية الرسمية عند إصدار مجلد باللغتين الانجليزية والألمانية عن القصر الذي يحتله ويملكه أوفيد مكون من 211 صفحة كان أول وثيقة تصدر منذ تشييد القصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هذا القصر هو أحد معالم المدينة العريقة فيينا.
كانت علاقة الصندوق بسفارات الدول الأعضاء والدول المستفيدة وعلاقة الصندوق بالمنظمات المقيمة أحد الروافد التي مرت من خلالها حملة التعريف التي نفذناها تلبية لما ورد في برقية المقام السامي.
كانت هذه الحملة كفيلة بوضع أوفيد في دائرة الضوء، وهو أمر صار حديث الناس في فيينا الى درجة أنهم صارور يتندرون على ان أوفيد سرق الأضواء من «أوبك» المنظمة!! رحم الله الملك فهد، إذ لولاه لما تمكّنا من تنفيذ تلك الحملة التي لم تكن بعض أدواتها مألوفة لبعض من تعاقبوا على مجلس المحافظين من السعوديين.
لم تكن تلك الحمله وما حققته من مكاسب للدول الأعضاء في أوفيد كافية في نظرنا أنا وزملائي لترسيخ مركز أوفيد على الساحة الدولية، إذ لا بد أن يسهم الصندوق بدوره في رسم الأجندة الدولية الجديدة التي ستعقب أهداف الألفية الثمانية التي صدرت عن الأمم المتحده للفترهً 2000-2015 شريطة الا تختلف عما تضمنه النظام الأساسي.
هذه الأهداف الثمانية لفتت نظري وأنا قادم من وزارة البترول، فهي تخاطب كل أوجه الفقر من صحة وتعليم وغذاء الخ ما عدا فقر الطاقة المتمثل في تلك الفتره بوجود ما يربو على المليار نسمة في العالم يحرقون الحطب والجلة لمعاشهم اليومي.
التقطنا هذا الخلل وبدأنا نبشر بالقضاء على فقر الطاقة بصفته الهدف التاسع المفقود. وجادلنا في مختلف المحافل بأن الحديث عن التنمية المستدامة بدون التصدي لفقر الطاقة هو من لغو الحديث. وفي شهر نوفمبر 2007 دعت حكومة المملكة العربية السعودية لعقد قمة «أوبك» الثالثه في الرياض وطلب منا القائمون على تنظيم المؤتمر إعداد نبذة عن فقر الطاقة، وصارت هذه النبذه جزءاً من البيان الختامي تحت بند الطاقة والتنمية المستدامة؛ وهي تحمل تعليمات القمة لصناديق التنمية في الدول الأعضاء وأوفيد بالبحث عن السبل الكفيلة باجتثاث فقر الطاقة، ثم تبنينا هذه التعليمات في أوفيد وحولناها الى خطة عمل سبقنا بها السيد بان كي مون في الأمم المتحدة. هذه الخطة تضمنت تنظيم أول ندوة في أبوجا عاصمة نيجيريا عن فقر الطاقة، وإقامة تحالف مع شركات الطاقة مثل توتال وشل وأرامكو عبر البحار وشلامبرجيه، وتمويل مشاريع الطاقة الصغيرة في بعض الدول الفقيرة بأفريقيا وآسيا.
هذه العزيمة والحماسة أظهرت بكل وضوح أن أوفيد منظمة لديها مشروع إنساني سبقت فيه الأمم المتحدة، مما جعل المجلس الوزاري يوافق على تغذية موارد الصندوق بمبلغ مليار دولار تنفيذاً لاقتراح من الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وهو دليل قاطع على ماحظينا به من ثقة من المجلس، خاصة انه قرار صدر من أصحاب المعالي الوزراء والأزمة المالية لازالت ترخي سدولها على الأسواق.
وتبعاً لخطة أوفيد عن فقر الطاقة ارتفع نصيب هذا القطاع في التزامات أوفيد من 18 % الى 30 % خلال الأعوام اللاحقه لعام 2007. وفي شهر سبتمبر(أيلول) 2015 صدر عن الأمم المتحدة ما يعرف الآن بأهداف التنمية المستدامة؛ وهي 17 هدفاً من بينها الهدف السابع الذي سقط سهواً أو عمداً من أهداف الألفية وهو عن الطاقة للجميع، وهذا يحتاج الى مقال مستقل.
وأخيراً فإن من يزور فيينا يشاهد في الحي الثاني والعشرين النصب التذكاري الذي شيدناه بمناسبة العيد الأربعيني لـ«أوفيد» ودشنّاه مطلع شهر يونيو (حزيران) من عام 2016 بحضور وزير الثقافة النمساوي وأعضاء المجلس الوزاري ومجلس المحافظين، وفي الجانب المتاخم لمبنى الأمم المتحدة من النصب تظهر أهداف التنمية المستدامة يتصدرها هدف القضاء على فقر الطاقة الذي لم يعد مفقوداً. وهو مثل آخر على ان «أوفيد» سبق الأمم المتحدة في ترسيخ مبادئ أجندة التنمية المستدامة.
هذا النصب يجسّد قصة نجاح كتبها أفراد من «مختلف الأعمار» والثقافات تعاهدوا على مكافحة الفقر في مائة وثلاثين دولة نامية بصرف النظر عن الإقليم أو الجنس أو الدين، بل إنه يبرهن على مقدرة العنصر الوطني على الإبداع والابتكار كلما توفرت الظروف الموضوعية، وللحديث بقايا.