تخلُد نفسي إلى وقفات من التأمل وأنا بعيد عن لبنان، الوطن الذي طالما أسعدني تمثيل بلدي فيه وأكون سفيراً لخادم الحرمين الشريفين، أبذل ما فيه الحد الأقصى من الجهد المستطاع لتنفيذ توجيهاته التي كنا نتزود بها نحن سفراء المملكة لدى لبنان، وهي التحمل ما أمكن التحمل لتداعيات الصراعات في لبنان، وبذْل ما أمكن البذْل لتقريب وجهات نظر أطيافه السياسية والدينية عند اشتداد العصف السياسي الغاضب، واعتماد مفردات النصح بهدف إصلاح ذات البين، كما وأنتم تنشطون سعياً طيِّباً في مخاطبة الغاضبين المتقاذعين أسلوباً، ومفردات استحضار قول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: «ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». وقوله: «ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء.. وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء»، (أيْ بمعنى الرجوع عن غضبه).
شاءت الظروف أن يتم اختياري لكي أكون السفير الذي يخلف الأخ الكريم الدكتور عبد العزيز خوجة، الذي خففت أبياته الشعرية الوجدانية عن لبنان، وبالذات مناشدة اللبنانيين ألا يضيّعوا بالخلافات والصراعات وطناً على فرادة كثيرة التميز، من خشيتي ألا أستأنف المداواة الدبلوماسية من حيث انتهى دور المعالج الدكتور عبد العزيز خوجة، والذي كان هو استأنف دوراً قام به خير قيام السفير فؤاد المفتي، وها أنذا أختم بعد سنوات من العطاء، اهتماماً وبذلاً ونصحاً وتفهماً، الدور ليستأنفه من بعدي السفير وليد بخاري، أحد رموز الجيل الدبلوماسي السعودي الجديد والواعد.
ربما كان اختياري بالذات لأكون سفيراً لدى لبنان الذي حال الوضع السياسي فيه كما البحر في موسم شتاء بالغ القساوة رعوداً وبروقاً وتلاطم أمواج على مدار ساعات الليل والنهار، أنني أمضيتُ خدمة دبلوماسية شديدة الوطأة في باكستان، حيث الصراعات أشد تعقيداً وخطورة من الصراعات اللبنانية، وحيث التنافر المذهبي يتحول إلى أحقاد تعزز تصفيات، فضلاً عن أن الجواريْن الأفغاني والهندي يشكِّلان ما يشبه الحطب الملقى على الشرارات التي قد تشتعل مواجهات متدرجة الخطورة في كراتشي وإسلام آباد والبقاع المترامية على حدود الجارتيْن. رغم هذا العصف السياسي كانت سنواتي الباكستانية تجربة لطالما حفَّزتْني لكي أُنجز في لبنان من المهمات ما تشكِّل ترجمة لما يطلبه ولاة الأمر في المملكة من السفراء لدى وطن الأرز والجبل الأشم، طوال سنوات بدأت في زمن الملك المؤسس عبد العزيز، وتوالت مع أولياء الأمر الأبناء الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، طيَّب الله ثرى الوالد المؤسس، ورحمة الله على الأبناء، وحفظ المولى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وسدَّد خطى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على طريق الاستنهاض المستنير اجتماعياً، والواعد تنموياً واقتصادياً، والمتوازن سياسياً واستراتيجياً.
وطوال هذا القيام بالواجب الدبلوماسي كانت، على ما في وثائق أرشيف الخارجية السعودية، السيرة والمسيرة الدبلوماسية على أحسن حال. وكانت عهود الرؤساء اللبنانيين الذين يتفهمون عمق جوهر العلاقة مع المملكة وأهميتها لمصلحة الشعب وتنمية الوطن، دائماً على الصراط المستقيم. هكذا عهد بشارة الخوري، ثم كميل شمعون، ثم فؤاد شهاب، ثم شارل حلو، ثم سليمان فرنجية، إلى إلياس سركيس، ثم أمين الجميّل، فإلى رينيه معوض، وإلى بعض عهد إلياس الهراوي؛ وذلك لأن طقوس الترئيس مع بداية عهده باتت غير ما كانت عليه، ثم استمرت على الوتيرة نفسها مع الرؤساء التالين، بنِسبٍ متفاوتة من عدم التبصر بما يجب بالنسبة للعلاقات اللبنانية مع السعودية ودول الخليج. وكنا نتمنى ألَّا يصل عدم التبصر إلى ما وصل إليه في العهد الذي بدا مختزَلاً وانتهى قبْل أسابيع، وقد باتت أبواب الفضاء الرحب للعلاقة مع المملكة على غير الأزمان الرئاسية الماضية، وبحيث وصل إلى أن جزئية رحبة من الساحة اللبنانية أمست منصة إساءة مزدوجة للمملكة. إساءة على صعيد الإعلام، وإساءة على صعيد استهداف المجتمع السعودي بالمخدرات التي يتم تهريبها.
ولطالما بذلْنا من التنبيه بمفردات أخوية، لكن السلوك غير المستحب استمر متقطعاً. ولولا أن الحرص على لبنان الوطن والشعب والصيغة هي بند في قرار مرجعيتنا السياسية وذات حيز في نفس كل سعودي، لكان حدث الذي لا قدَّر الله من شأنه استيلاد جفلة في العمق لا يعود فيها لبنان رقماً متقدماً في أجندة اهتمامات المملكة.
ما يتمناه كاتب هذه السطور، وقد بات مراقباً للتطورات الجارية بوتيرة مقلقة في لبنان الذي له مكانة في نفسه بعدما كان يؤدي على مدى ست سنوات الواجب المناط به، والمعزَّز بتوجيهات أولياء الأمر الهادفة إلى ما سبق وأشرتُ إليه لجهة التفهم والحرص وإصلاح ذات البين بما يُبقي الوطن والشعب في دائرة السلامة والتوافق، هو أن يعيد البعض من أُولي عدم تيسير الأمور قراءة مواقفهم بضمير المؤمن، مسلماً كان أو مسيحياً؛ بهدف أن تتبدل الأمور من حال إلى حال، واعتبار السِلْم كما السلامة كما التنمية كما المحبة، هو الدواء الذي يقلل من الانتشار المخيف لنزعة الاحتراب لا قَّدر الله. وعندما نقول ذلك فإننا نستلهم قول الرسول العربي قبل 1444 سنة: «أفضل الأعمال بذْل السلام للعالم»، كما لإننا نريد الاستقرار الثابت لهذا الوطن الذي يتسع مدى غربته العربية، وإلى حد الخشية من هجْرِه ثم تهجيره إلى الغريب الطامع به ورقة قابلة للمقايضة في سوق بيع الأوطان وشراء استقرار شعوبها وسلامة أراضيها.
وعندما يتمنى أخوكم كاتب هذه التمنيات بمداد من اللوعة على ما آلت إليه أمور لبنان الصيغة والمجتمع والكيان والسلوك السياسي، وكيف يعلو صوت التحدي والشتائم بين الذين في أياديهم مقادير إدارة شؤون الدولة وزراء كانوا أو برلمانيين أو زعامات حزبية، فلأنه عدا حب مستقر في مشاعره بوطن عاش فيه وعرفه رسمياً وحزبياً وشعبياً وتعدداً مذهبياً، من الذين يرجعون إلى الكتب السماوية عندما تشتد الأزمات أياً كان استهدافها، وهدياً لذلك أتمنى على اللبنانيين، وبالذات رموز العمل السياسي والحزبي الذين يتبادلون إعلان المواقف بأقذع الكلام في تصريحاتهم أحياناً، وبورقة السلاح عموماً، أن يتأملوا في قول الرسول: «ألا أُخبركم بشرِّ عباد الله. إنه الفظّ المستكبر».
لقد ذاق لبنان مرارة احترابات سياسية انتهت حروباً قاسية عليه من نوع الحرب التي استهدف بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومن دون استئذان شعبه أو استفتائه، دولة كانت على طريق تطوير نفسها وتأمين سلامتها، غير مستحضر لتأكيد إيمانه ما جاء في الكتاب المقدس من نُصح وتنبيه مثل عبارة: «عيشوا بالسلام وإله المحبة والسلام سيكون معكم». وذاق العراق مرارة مغامرات عربية من جانبه وعليه؛ وذلك لأن التبصر في الأمور لم يكن وارداً رغم أنه ينجي من شر العواقب، أو فلنقل كان مغيَّباً. وما بات من الطبيعي أن أخشاه، كمطلع على بعض الخفايا من أمور كثيرة، هو ما أسرَّه أمامي في ذات لقاء الصديق الرئيس حسين الحسيني الذي ينطبق على ما فقدناه قبل أيام، رحمة الله عليه، القول مع بعض التعديل: «وفي الليلة الظلماء يُفتقد أحد رموز الحكمة وبُعد النظر»، ففي ذلك اللقاء وكنا نتباسط في أمر مجادلات مرجعيات لبنانية بمفردات غير ودية وغير مسؤولة، هذا إذا لم نقل إنها كانت حاقدة على ذلك الإنجاز الوطني الذي بذلت المملكة من أجْل إحقاقه أكثر من أي بذْل تجاه قضايا عربية شائكة، وقال لي ما معناه إن الذي يعطل الانطلاقة الكاملة لاتفاق الطائف هو أن الطائفة تشكِّل حماية للتحزب الميليشياوي، وهذا يعني أن الاتفاق أوقف النزف إلى حين، لكن الجرح ما زال في حاجة إلى علاج، وربما جاءت فاجعة العراق غزواً للكويت وحرباً عليه تجعل الطبيب العربي - ويقصد المملكة - ينشغل بما هو الأهم من دون إعطاء المهم العناية التي تُحقق الشفاء. وزاد قائلاً: «لا أخفيك يا أخ أبو فيصل. شعوري أن لبنان أشبه بميدان.. والتأهب للمواجهة قائم في العلن استعراضاً، وفي السر تخطيطاً. وإذا قلت لك إن ما يمكن حدوثه هو انفجار الموقف المتعدد الساحات، فلأنني أقرأ بعناية السطور وما بينها».
كلام الأخ أبو علي أقلقني قلق المحب. وقلت له: كأنك تقول نثراً عن الحالة اللبنانية ما قاله شاعر العراق معروف الرصافي عن بني قومه وحال وطنهم: «من أين يُرجى للعراق تقدُّم... وسبيل ممتلكيه غير سبيله». وعلَّق الرئيس الحسيني (رحمة الله عليه) بأن استحضر من كتاب الله الآية الكريمة «ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع ونقْص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين. الذين إذا أصابتْهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون..».
ولقد بدا السيد في استحضاره هذا كمن يتوقع قبل ست سنوات حال لبنان واللبنانيين على مدى سنوات تحالف أنتج رئيساً يريح سيداً، وتطيب له نفوس أمَّارة بالمكاسب والتزعم، لكنه تَسبب فيما هي حال لبنان الوطن والشعب راهناً.
وبنعمة العودة إلى الرشد يستعاد لبنان نجماً ساطعاً في سماء عربية صافية.
وفي رعاية الله يا شعب لبنان الصابر على ضيمهم صبر أيوب. كما لا بد لليل أن ينجلي.
* السفير السعودي السابق لدى لبنان