إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عاميّة أم فصحى؟

كانت تقرأ لابنها قصة للأطفال وتحاول أن تشرح له معاني المفردات. قالت إن «ذَهَبَ الرجل إلى عمله» تعني راح للشغل. واعترض الولد ابن السادسة: «لماذا نقول ذهبَ ولا نقول راح للشغل؟».
لم تعد هموم الأمهات والآباء، اليوم، تعليم أبنائهم لغة عربية سليمة، بل كيف يرونهم بلابل بالإنجليزية. لغة العصر والعلوم والتواصل الإلكتروني. أما السجال حول العامية والفصحى فيبدو مثل البطيخ، ينزل إلى الأسواق في مواسم ويغيب في مواسم. والجدل دائر في مصر، هذه الأيام، لأن داراً للنشر أصدرت ترجمة لرواية همنغواي «العجوز والبحر» بالعامية القاهرية. كتاب عمره سبعون عاماً، سبق أن تُرجم إلى العربية وشاهدناه فيلماً على الشاشة. وها نحن نقرأه بلغة الشارع.
علت صرخات الاستنكار. هناك من يخاف على الفصحى من العامية. ومن يتابع السجال يكتشف أن رواية «الغريب» لألبير كامو كانت قد تُرجمت بلغة دارجة، وكذلك مسرحية شكسبير «عطيل»، بل إن «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري صدرت بالعامية قبل سنوات قلائل. ويتساءل الأديب المصري أحمد الخميسي: «ما مبررات ذلك؟ هل هو الادعاء بأن الهدف مخاطبة شريحة عريضة ممن لا يقرأون اللغة الفصيحة؟» ثم يردف: «إن هذا الرأي مضحك؛ لأن من يقرأ العامية بحروف عربية سيقرأ اللغة الفصيحة التي يسّرتها وسائل الإعلام. أيكون الدافع شيئاً آخر مثل الادعاء بأن العامية لغتنا القومية وينبغي التمسك بها؟ وهنا نسأل، أي عامية تقصد؟ القاهرية أم الصعيدية أم السواحلية أم عامية بدو سيناء أم عامية أهل النوبة؟ الحقيقة أن العامية كانت وما زالت لهجة، واللهجة ظاهرة ملازمة لكل لغات العالم، لأن اللهجة، أو الكلام اليومي، مختبر اللغة الفصيحة. ومن المفهوم بالطبع أن تتجه فنون مثل السينما والإذاعة والمسرح إلى العامية، لأن تلك الفنون تخاطب قطاعاً واسعاً قد لا يحسن القراءة فيه عدد ضخم. لكن من السخف (والكلام ما زال للخميسي) أن تتجه العامية إلى الكتاب المطبوع تأليفاً وترجمة».
أحاول تطبيق هذا الكلام على لهجاتنا في العراق. كان من المحرمات، في سبعينات القرن الماضي، تشجيع العامية أو تسرّب مفرداتها إلى لغة الصحافة. وعاش الشعراء الشعبيون حصاراً على المستوى الرسمي. لكن الدارجة واصلت حضورها في الأغاني وفي المسرحيات وتمثيليات التلفزيون. وهنا يمكن طرح السؤال نفسه: أي عامية؟ أهي الموصلية أم البغدادية أم لهجات أهل الجنوب؟ يغني ناظم الغزالي، ابن العاصمة: «من ورا التنّور تناوشني الرغيف... يا رغيف الحلوة يكفيني سنة».
وكان العراقيون يفهمونه، ويفهمون أشعار مظفر النواب: «واعلكنه للصيف اليجي روازينّه السمرة شمع... من ينزل أول الدفو بنيسان يهتزّ النبع». وهم قد حفظوا الأغنية الموصلية: «فتّو على بابها ع تنقش الوردي... راس ابرتا من ذهب وبريسما هندي». مفردات قد تستعصي على الغريب لكنها ألحان متوارثة يرددها الناس في أفراحهم وأشجانهم. والثانية تفوق الأولى. كان هذا قبل أن يصبح الشعراء الشعبيون فرسان الساحة.
أمامي هدية من صديقة تونسية عزيزة. كتاب «الأمير الصغير»، للفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري. مطبوع شهير تحتفل الأوساط العالمية بمرور ثمانين عاماً على صدوره. تُرجم إلى عشرات اللغات ومنها العربية. لكن النسخة التي بين يدي بالدارجة التونسية. والعنوان: «الأمير الصّغرون».
اقرأوا معي: «الأمير الصّغرون لوّج بعينيه على بلاصة يقعد فيها أما الكوكب كان معبّي بالكبّوط المزيان. يا خي قعد واقف. وعلى خاطرو تاعب تثاوب... قام يوكوك شوية وكاينو منبوز».
عاشت الفصحى التي توحّدنا!