بين التلوث الفكري والتلوث البيئي!

منذ سنوات طويلة والعالم يتحدث عن التلوث البيئي في كوكبنا وما سينتجه من كوارث مناخية وبيولوجية تسقط ظلالها على إنتاج البشر وتفاصيل حياتهم وربما مصائرهم، وفي حينها لم يكترث الكثير لمغبّة ما تفعله الصناعات الثقيلة ومخرجاتها، والأنشطة النووية والكيماوية والجرثومية وتجاربها السرية والعلنية، ناهيك بالتلوث الرهيب في دول آسيا وأفريقيا وأميركا الشمالية الذي ينافس التلوث في أوروبا وأميركا رغم الفارق الحضاري، وذلك بسوء استخدام الطبيعة ومواردها، ورغم كل دعوات المنظمات والحكومات وأحزاب الخضر فإن ذلك لم يجدِ نفعاً، حيث بدأت الكارثة تتحقق فيما يجري اليوم من أزمة خانقة للمياه والتغييرات الخطيرة في المناخ وارتفاع أعداد المصابين بشتى الأمراض وبخاصة السرطانات منها.
والدخول بعمق في هذا المجال كالدخول في التفاصيل ومن يسكنها حيث التلوث الخطير الذي تنتجه آلات الصناعة والحرب الظالمة، بالتعاون مع آلات الحروب ونتائجها، وملايين الفضلات القذرة التي تُرمى في الأنهار والبحيرات والبحار، ناهيك بثقب الأوزون وتداعياته التي أدت هي وبقية الملوثات إلى وفاة ما يقدَّر بنحو 12.6 مليون شخص في العالم، حسب تقرير صادر في 15 مارس (آذار) 2016 من منظمة الصحة العالمية، ولولا رحمة السماء في منحنا فيروس «كوفيد - 19» الذي أنقذ البشرية لحقبة جديدة من وفاة مئات الملايين من بني آدم، لكنه أنذرها أيضا بأيام سوداء ما لم تحتسب الجهات المعنية، حكومات كانت أم منظمات ومؤسسات، وبسبب ذلك التلوث ومخاطره اتجه الملايين من المهتمين بالسياسة إلى ترك الأحزاب السياسية وتأسيس أحزاب خضراء لحماية البيئة والطبيعة من هذه الهجمة الهمجية على أصولها وينابيعها في حلبة الصراع على المال والنفوذ!
أردت بهذه المقدمة المقتضبة أن أدخل إلى ما هو أخطر منها في تدمير الإنسان بعد تفريغه وغسل دماغه وتحويله إلى إنسان آلي تبرمجه مجموعات ومؤسسات وأحزاب ومفكرون ومنظومات إعلامية وسيكولوجية وتجار أسلحة ومخدرات للهيمنة على عالم من القطيع الأصم والأبكم والأعمى، تلك هي معظم الشعوب التي تحكمها أنظمة تستخدم الآيديولوجيات المتشددة والمتطرفة دينياً أو مذهبياً أو قومياً، والتي دفعت أثماناً باهظة من حياتها بسبب تلك العمليات في الاحتواء الفكري والآيديولوجي بشعارات فضفاضة وعاطفية مثيرة، هذا الاحتواء الآيديولوجي أو عملية غسل الدماغ هو جزء مهم من التلوث الفكري، وهو المعروف باسم التحكم بالعقل أو الإقناع القسري أو التحكم في الفكر أو إصلاح الفكر وإعادة التعليم، ويُمكن تعريف غسل الدماغ على أنّهُ التحكم في العقل البشري أو تغييره عن طريق عدّة تقنيات نفسيّة معينة، وهو يُقلل من قدرة الشخص على التفكير النقدي أو المستقل وإدخال أفكار جديدة غير مرغوب فيها، مما يؤدي إلى تغيير مواقفهم وقيمهم ومعتقداتهم، وبدأت هذه الظاهرة في الخمسينات من القرن الماضي في دولة الصين، حيثُ كانت تقوم الحكومة الصينيّة بجعل الناس يتعاونون معها عن طريق عمليات غسل الدماغ، وظهر أيضاً هذا المفهوم في ألمانيا النازيّة، ثم ظهرت بوادر استخدامه بدايات القرن الماضي في دول الشرق الأوسط، خصوصاً في تركيا الأتاتوركية وإيران المذهبية ومن ثم في العراق وسوريا واليمن خصوصاً بعد الانقلابات التي اعتمدت ثقافة الحزب الأوحد وتسييد العرق والمذهب، مستخدمةً في ذلك أساليب الصهر القومي والمذهبي والسياسي، وبذلك يكون التلوث الفكري أكثر بشاعة في تأثيره وتداعياته من التلوث البيئي، حيث أنتجت تلك السياسة تدهوراً فظيعاً في تلك البلدان التي تعرضت مجتمعاتها لصراعات وحروب كارثية وضياع فرص ذهبية للتعايش السلمي والسلام والازدهار.
وفي النتيجة فإن المخرجات في التلوثين متقاربة جداً في الشكل والنوع والنهايات، ففي التلوث البيئي يذهب ملايين البشر مقتولين أو معاقين ضحية له، وفي التلوث الفكري يُقتل الملايين أيضاً في إنسانيتهم ويتم تحويلهم إلى قطعان بشرية مستكينة أو معاقة فكرياً، وربما الأخيرة أكثر إيلاماً من الأولى!