د. ياسر عبد العزيز
TT

2022 عام الفيديو القصير

إذا أردنا أن نؤرخ للعام 2022 المنصرم تواً على الصعيد الإعلامي، فربما لن نجد أفضل من وصفه بأنه «عام الفيديو القصير على الشبكات الاجتماعية»، وهو أمر لا تعوزه إثباتات على أي حال، وإن كان يطرح الكثير من التساؤلات والمخاطر.
في العام الذي غادرنا، الكثير من التطورات والأحداث المُهمة والدراماتيكية على الصُّعد كافة، وهي تطورات انعكست في معالجات إعلامية مكثفة ومتباينة الأوجه ومتعددة المنصات، ورغم ذلك؛ فقد توافقت بيوت الخبرة على أن الفيديو القصير كان الرابح الأول على مدار العام.
تسابقت منصات «السوشيال ميديا» على تطويع أنظمة عملها للتوافق مع مقتضيات إنتاج الفيديو القصير وبثه والتفاعل معه، وتنافس القائمون على إداراتها على تحفيزه وتطويره، ولم يكن لذلك سبيل سوى زيادة جرعات الغرابة والطرافة التي ينطوي عليها، بموازاة تقليل زمن البث.
ودخل إلى الصناعة هواة ومحترفون جدد، وهؤلاء تتزايد أعدادهم باطراد، ويتبعون أنموذج العمل ذاته، ويحققون المداخيل، التي ستتضخم كلما زاد حجم الغرابة والطرافة في المُنتَج، وقلّ زمن عرضه في الوقت نفسه.
وبموازاة ذلك الازدهار الكبير، سيقضي جمهور وسائل الإعلام «الجديد» المزيد من الوقت على المنصات الرائجة، وربما سيحصلون على قدر أكبر من المرح والتسرية، لكنهم سيفتقدون قدراً كبيراً من المعاني والسياقات، وكثيراً من أوجه الفائدة الحقيقية، التي يمكن أن نحصل عليها عند التعرض لوسائل الإعلام.
وبدورها، ستنتبه وسائل الإعلام المؤسسية لقدرة الفيديو القصير الكبيرة على الجذب، وطاقته المتجددة، وستطور نماذج عملها لاستيعابه، وستُعده مدخلاً لخططها الجديدة للتكيّف مع مستجدات سوق الإعلام.
لن يعوض الفيديو القصير وسائل الإعلام المؤسسية عن خسائرها المطردة، ولن يفلح في تصليب مقاومتها ضد طوفان «الشبكات الاجتماعية» الجارف، وكل ما سيحدث في هذا الصدد أنه سيفرض أسلوبه ووجوده عليها، من دون أن يُمكّنها من حصد عوائد مناسبة تكفي للوفاء بنفقاتها الكبيرة.
كان العام 2022 سيئاً بالنسبة إلى عالم وسائل الإعلام المؤسسية؛ إذ تكثفت الضغوط المالية عليها، وتراجع منسوب الثقة في أخبارها، وساهمت أخطاؤها الكبيرة في تغطية بعض الأحداث العالمية المُهمة في تعميق أزماتها؛ إذ واصلت الآيديولوجيا والانحيازات السياسية دفعها إلى المزيد من الزلل.
لقد حذرت منظمات أممية مرموقة من «تهديد وجودي» يعتري العمل الإعلامي المؤسسي، وتوقع البعض «قرب زوال وسائل الإعلام المهنية»، لمصلحة «الشبكات الاجتماعية»، التي لم تنجح خلال العام الفائت في تحسين صورتها لجهة التزام المعايير، أو توخي المصالح العامة، بقدر نجاحها في تطوير منتجها «البارع» المتمثل في الفيديو القصير وحمولاته المشوقة عادةً، والفارغة من المعنى والسياق غالباً.
دخلنا العام 2023، ومنصات «السوشيال ميديا» تفقد بعض ألقها ومصداقيتها وقدرتها على الوفاء بمقتضيات الحوكمة، لكنها مع ذلك ما زالت تحافظ على تدفق الزبائن، وتحويلهم سلعاً عبر انتهاك خصوصيتهم والمتاجرة بها، فضلاً عن النزعة الاحتكارية، وخطل إرساء الأولويات.
تتعرض الأسماء الكبيرة في عالم «الشبكات الاجتماعية» للضغوط، وتتراجع أرباح بعضها، وتتخبط إداراتها، وتظهر أسماء جديدة كل يوم تقريباً على قائمة المنافسة، وتقضم حصصاً من السوق، لكن أنموذج العمل لا يتغير، ولا تحدث الموازنة بين النزعة التجارية والمسؤولية المفترضة لوسائل الإعلام تجاه المحتوى والمستخدمين.
في العام 2022، واصلت الوسائط الجديدة خطف الوظيفة الإخبارية. وعبر امتلاكها فضاء حرية أكبر، وقدراً أقل من مطاوعة القيود، ونفقات تشغيل محدودة؛ وضعت وسائل الإعلام المؤسسية في موقف أصعب، وكادت تسلبها سبب وجودها ومناط تفردها الأساس. واليوم ثمة ضرورة حيوية لمعالجة أممية مسؤولة لحالة عوار إعلامي عالمية يمكن أن تقوّض عالم الأخبار، وسيكون العام الجديد (2023) محكاً لاختبار قدرة العالم على مقاربة هذا التحدي الخطير.
إن دعم وسائل الإعلام المؤسسية، سواء كانت خاصة أو مملوكة للدول، مسألة شديدة الأهمية، وتعويضها عن سلب المحتوى الذي تنتجه، عبر استثمار مالي وبشري ضخم، ضروري، وغلّ أيدي منصات «السوشيال ميديا» عن «استعارة» هذا المحتوى، واستخدامه في جلب العوائد، عمل مهم، على أن يجري من دون فرض المزيد من القيود التي قد تجور على حرية الرأي والتعبير.
في 2023، يجب أن تكون هناك وقفة مع مستجدات متسارعة لا تخدم وظائف الإعلام واستمرارية مؤسساته المتخصصة. وفي هذا الصدد، يمكن أن نأمل في حوكمة ضرورية لعالم «الشبكات الاجتماعية»، بموازاة دعم قوي ومستدام للعمل الإعلامي المؤسسي.
وسيحتاج عالم الإعلام في 2023 إلى المزيد من العمل الإخباري المؤسسي، الذي يقوم عليه مهنيون قابلون للمساءلة، في مقابل القليل من الفيديوهات القصيرة، التي تحقق أرباحاً بقدر ما تُغيب من المعاني!