د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

علم دراسة سلوك الشعب!

اكتشفت الحكومة الكندية أن تقليل عدد الأشخاص غير النشيطين (الخاملين) بنسبة 1 في المائة فقط سوف يوفر نحو ملياري دولار من تكاليف الرعاية الصحية سنوياً. هنا بزغت في أذهان المسؤولين فكرة رائدة تستحق التأمل، وهي محاولة زيادة حركة المواطنين والمقيمين! كانت مهمة شبه مستحيلة، فكيف يمكن أن يستجيب شعب بأسره لمبادرة «حكومية» من هذا النوع.
وقد نجحت الحكومة الكندية بالفعل في تجربتها الفريدة، عندما رفعت النشاط البدني للأفراد بنسبة 34 في المائة خلال عام واحد، وذلك عبر استخدام «أدوات التبصر السلوكي». وتمكنت التجربة من رفع مستوى وعي الأفراد بالمخاطر ذات الصلة بضعف مستويات نشاطهم البدني. وكان ذلك عبر طرح هيئة الصحة العامة مشروع تحفيز المجتمع بدعوة أفراده للمشاركة في مبادرة «CarrotRewards» أو مكافآت الجزرة. وهي نابعة من مفهوم العصا والجزرة الشهير، أي أن هناك من تحركهم دوافع المكافأة (الجزرة للأرنب) وليس العصا (العقوبة)، حسبما ذكر في أحد إصدارات القمة العالمية للحكومات.
وتم تنفيذ المشروع عبر تطبيق هاتفي ذكي يمنح المشاركين فيه نقاط ولاء عن كل خطوة يخطونها، وذلك في محاولة لتحفيز الناس، ورفع مستوى وعيهم بأهمية اتباع نمط حياة صحي. ومنح التطبيق المنضمين إليه خيار استبدال تلك النقاط في مرافق الشركاء، مثل الأماكن العامة الترفيهية، ومحطات التزود بالوقود وغيرها.
ونبعت المبادرة من فكرة مبادئ الاقتصاد السلوكي الذي يستفيد من التكنولوجيا في محاولة لتغيير سلوك الناس. وهو العلم الذي تبحر به الباحث الشهير البروفسور ريتشارد ثالر، فتوج على إثر أبحاثه بجائزة نوبل للاقتصاد، وهو علم بين الاقتصاد التقليدي وعلم النفس يفسر لنا سلوكيات الناس. وقد وضع هذا العالم وزميله أبحاثهما في كتاب جميل أسمياه «الوكزة» أو «التنبيه» Nudge وقد ذاع صيته عالمياً. وسارعت حكومة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون إلى تأسيس «وحدة التنبيه»، لتقدم بطريقة منهجية «وكزة» للشعب في صورة برامج وسياسات عامة توعيهم بأهمية الانتباه لهذا الإرث الكبير من الاقتصاد السلوكي الذي يقف خلف سلوكيات عدة.
وهذا يشير إلى أن أمام الحكومات حلولاً علمية كثيرة لدراسة سلوكيات الشعوب، بعيداً عن لغة التهديد أو الحرمان أو المضايقات التعسفية. وهذا ما يحتاج إلى أطنان من المعلومات. ولحسن الحظ، فإن الذكاء الصناعي صار ينمو بصورة مذهلة، الذي يجمع لنا معلومات هائلة عن حياة الشعب وتصرفاته، بل يضع أمامنا تنبؤات لسلوكياته. فصار في مقدور المسؤولين عبر ملايين كاميرات المراقبة رصد أي شخص يحمل سلاحاً أو أي مشاجرة أو حيوان مفترس أو حادث مروري عبر توجيه تنبيه آلي من دون تدخل بشري. بل رأيت قبل فترة أنه صار في مقدور خراطيم المياه أن تتوجه فوهاتها فوراً نحو موضع الحريق من أسقف القاعات لتئد ألسنة اللهب في مهدها قبل انتشارها!
وخلاصة الأمر، أن مؤسساتنا الكبرى وحكوماتنا صارت بحاجة إلى مزيد من الإحصائيين، وعلماء السلوك، والمختصين في الذكاء الصناعي، والأمن السيبراني، فهم ثروة قومية ومداد لخطط المستقبل في فهم ماذا يريد الشعب، وكيف يتصرف في مواضع عدة.