إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

في منازل القلوب

إذا تعسّر الطريق إلى بغداد عليك بالمنامة. القوم هنا كأنهم من هناك، أصالةً وثقافةً وكرماً، وحتى في لهجة الكلام. تهرب من صقيع الشمال ساعياً نحو شمس تداوي ما تضعضع من المفاصل، فلا يخيب مسعاك. البحرين وادعة. وأهلها عشاق شعر وأدب وغناء. وما بين ندوة وندوة لا بد أن تزور مكتبة أو معرضاً للرسم.
في رسالة منه إلى الأديب اللبناني أمين الريحاني، يكتب شيخ أدباء البحرين إبراهيم بن محمد آل خليفة: «أجل يا صديقي العزيز، إن السياحة وسيلة إلى كل فضيلة، وواسطة إلى كل فائدة من العبرة والخبرة اللتين يتوقف عليهما نمو العقل الإنساني». رسالة عمرها يزيد على ثمانين عاماً، تجدها بخط يده مؤطرة بشكل أنيق في المركز الذي يحمل، اليوم، اسمه.
كل شيء هنا، في مشروع ترميم البيوت التراثية، مهفهف أنيق. الذوق الرفيع هو العنوان. كأن يد فنان ساحر مرّت على الأبواب والأرائك والأرفف والخابيات والثريات وفناجين القهوة وختمتها بختمها. تتجول في الأزقة النظيفة المغسولة وتتصور نفسك في متحف، أو بالأحرى في الحيّ القديم الذي رأيت فيه النور. أين يذهبون بالنفايات؟ سؤال طرحته إحدى السائحات وكانت على حق. ولولا روائح الهيل والزعفران الآتية من نوافذ المطابخ لشككت بأن عائلات تقيم في المكان. أمان وسكينة وجيران بشوشون يلقون عليك التحية. هي استراحة لكل روح هائمة. تتذكّر بيت المتنبي: «لك يا منازلُ في القلوب منازلُ... أقْفَرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهلُ».
خلال العشرين عاماً الماضية استضاف مركز الشيخ إبراهيم أبرز الأسماء في حقول الشعر والرواية والنقد والصحافة والفنون. تجد صورهم مصفوفة بالعشرات على الجدران وكأنهم شهود لزمن عربي يحار المرء في وصفه. وهناك، في إطار ثانٍ على الجدار، قصيدة تعزية من الشاعر العراقي محمد صالح بحر العلوم إلى الشيخ إبراهيم، جاء في أحد أبياتها: «إذا كان شِعري مثل دنيايَ دامساً... فنورُ أياديكَ الجميلة ساطعُ». كان بحر العلوم يزور البحرين، يومها، ممثلاً عن «الشبيبة العراقية». وأنا التي عرفته في سبعينات بغداد الماضيات عجوزاً لا يقوى على المشي.
لماذا تلوي بغداد عنقي في كل خطوة ومكان؟ كل جميل تقع عليه العين، وبديع، أتمناه لها. ليت يداً مباركة تمتد إلى منازلها القديمة وتنقذها من الاندثار، مثل اليد التي امتدت لقرابة ثلاثين بيتاً في هذه البقعة الصغيرة. هناك رتوش جمّلت شارع «المتنبي» في بغداد، لكن شارع «الرشيد» يبقى في انتظار المعجزة. تقول لي الشيخة مي، حفيدة الشيخ إبراهيم وراعية هذا المشروع المُلهم، إنها تفكر في تخصيص وقف له لكي يدوم النشاط الثقافي وتستمر الصيانة، بعد عمر طويل. وهناك مُكيّفات تحفظ للبيوت درجة حرارة مناسبة في كل أشهر السنة.
لا يتوقف الحلم عند عتبات المنامة والمحرّق. وهناك أفكار لترميم بيت تراثيّ في القدس، أو بيروت، أو بغداد. وقبل البيوت، فإن نفوساً في بلادنا تحتاج ترميماً. يحكي لك الباحث نادر كاظم عن التسامح الديني الذي تميزت به البحرين منذ عقود بعيدة. تسأله عن الجمعيات التبشيرية التي قصدت العراق والخليج مطلع القرن العشرين، فإذا بالأرقام والأسماء والصور حاضرة في مخزون هاتفه الصغير. والدكتور كاظم هو صاحب الكتاب التوثيقي «لا أحد ينام في المنامة». يتأخر النوم وتأخذك جلسات سمر تطرد شبهة النعاس. يكفي أن تدخل مكتبة «الوقت»، أشهر مكتبات العاصمة، لكي تنسى الوقت وموعد الطائرة. تود لو يسمح الزمان بوقت مستقطع تلتهم فيه كل هذه الكتب. ترقد في ظلّها وتتركها تسقط عليك فتموت سعيداً.