حنا صالح
كاتب لبناني
TT

وحده التغيير الجذري يستعيد لبنان؟

كثيرون قلبوا شفاههم لحظة سماعهم إعلان الرئيس نجيب ميقاتي أن من تثبت إدانته في مقتل الجندي الآيرلندي شون روني سيعاقب! وما من لبناني تفاجأ بانزعاج ميقاتي الذي سئل عن مآل التحقيقات بعد أيام على الجريمة التي طالت القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان، في منطقة تخضع لسطوة الدويلة، دون أن يتم توقيف أيٍّ من المشتبه بتنفيذهم الاعتداء الدموي، من «الأهالي» وفق تسمية ابتكرها «حزب الله»، لتغطية التعديات على «اليونيفيل»! رغم تأكيدات تسربت عن مطاردة وإصابة آلية القوات الدولية بـ27 طلقة، فيما يشتبه بأن الحدث عملية أمنية مدبرة كانت خططها جاهزة مسبقاً، وتم القتل بطريقة احترافية متعمدة!
بعيداً عن انزعاج ميقاتي، يتذكر المواطنون وعد الأيام الخمسة لكشف الحقيقة في جريمة الحرب التي فجرت مرفأ بيروت ودمرت ثلث العاصمة في 4 أغسطس (آب) 2020، وأحدثت إبادة جماعية. الحصيلة بعد 28 شهراً على الجريمة تقدم مخطط مصادرة الحقيقة وحجب العدالة، بعدما تمكنت سلطة الاستبداد من فرض وقف تعسفي للتحقيقات، ومنع المحقق العدلي من متابعة التحقيق في جريمة توازي في حجمها تفجيراً نووياً!
كما أن جرائم وقعت لاحقاً، قد تكون مرتبطة بتفجير المرفأ، وربما وُجِدَ رابط بينها وبين العمل السياسي لبعض الضحايا، لم يتم التحقيق الجدي بشأنها، وما من مشتبه به أو دوافع. لا شيء في جرائم قتل لقمان سليم، والمصور جو بجاني، والعقيد الجمركي منير أبو رجيلي، فيما ورد في ملف أنطوان داغر مسؤول «الأخلاقيات وإدارة مخاطر الاحتيال» المصرفي، «التحقيق اكتشف أن كاميرات المراقبة في البناية ومحيطها كانت معطلة» (...) الأمر الذي يعكس ضعفاً في سيادة القانون، عندما تطال الشبهات مسلحي الدويلة غير الخاضعين لأي مساءلة!
منذ عقود قُيِّدت ضد مجهول كل الجرائم التي هزت لبنان، ومنذ عقود التهم الفساد السياسي والأخلاقي والقانوني خيرات البلد وقدراته، وطال السطو ما بعد عام 2011 الودائع في البنوك. تحول كل ذلك إلى عملية قتل يومية، لكن لا محاسبة ولا ملاحقة، وحتى ما من مشتبه به، وتالياً ما من موقوف رغم أنه ما بين «طرفة عين وانتباهتها» تحول شعب بأكثريته الساحقة من البحبوحة إلى الفقر المدقع!
في مطلع تسعينات القرن الماضي، تم وضع قانون العفو عن جرائم الحرب، فأقفل باب المساءلة والمحاسبة مع انتقال كثر ممن تورطوا في جرائم الحرب الأهلية، من اتهام بالقتل على الهوية والخطف إلى مقاعد الحكم، وحصنوا تسلطهم بالحصانات والمحاكم الخاصة وقانون الإفلات من العقاب... وبعد الانهيارات المدبرة عطلوا ملاحقة الناهبين أمام القضاء، وينشطون في البرلمان لتمرير قوانين للعفو عن الجرائم المالية.
ما يعاني منه اللبنانيون هو نتيجة خلل في التوازن الوطني بدأ مع الانقلاب على الدستور، وترسخ مع نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي، وتطويع القوانين وتشريعها للفساد، - هذا القول للرئيس فؤاد السنيورة - ما أسلس قيادة السلطة وقراراتها وتدابيرها لمندوب سامٍ يمثل النظام السوري، الذي أتحف اللبنانيين بمقولات من نوع «شعب واحد في بلدين» إلى آخر المعزوفة. وعلى قاعدة هذا الخلل تبلورت طبقة سياسية تابعة ليتم تعليق الديمقراطية وتقييد الحريات وإنهاء العمل السياسي والحزبي وتطييف النقابات. ولم يتبدل شيء مع إخراج جيش النظام السوري، نتيجة زلزال «انتفاضة الاستقلال».
ذهب أطراف النظام الغنائمي إلى «التوافق الرباعي» الطائفي، فاجتمعت «الخصومات» السياسية في 8 و14 آذار، وتمت خيانة الانتفاضة، وقتلت فرصة حقيقية كان يمكن أن تعدل الخلل الوطني في ميزان القوى! ليتعمق الخلل لاحقاً في ظلّ حكومات «الوحدة الوطنية» التي وحّدت أطرافها على تحاصص البلد الذي اعتبر ملكاً شخصياً للمتسلطين يمكن لهم التصرف به دون رادع. ودوماً، من الحدود التي استبيحت، وتوزع المداخيل العامة وأصول الدولة، ووضع اليد على الأملاك البحرية والمشاعات، كانت الأولويات مصالح الزعامات وأدوارهم. استخدموا نوعية من المتسلقين التكنوقراط الذين نفذوا المرسوم لهم. ومع التسوية الرئاسية تشاركوا في تغطية اختطاف الدويلة للدولة بالسلاح، فاحتُكِر قرار البلد الذي أمعنوا في اقتلاعه لإلحاقه بنموذج النجاح والرفاه: محور الممانعة... لذا منذ ما قبل ثورة تشرين، وخصوصاً بعدها، لم يكن على طاولة البحث رؤية لانتشال البلد المدمر ولا مبادرة لحماية الناس الذين تطحنهم الانهيارات. حتى إن حكومة تصريف الأعمال الحالية، حكومة «حزب الله»، أولوياتها شطب مليارات الودائع وابتداع الضرائب التي تلتهم الرواتب وتحابي أثرياء نظام المحاصصة، في منحى يقع في صلب ما أسمي برنامج «التعافي»!
ما أتت به ثورة «تشرين» فتح باب الصراع من أجل التغيير. صراع بين تحالف طائفي مافياوي يقوده «حزب الله»، وبين أكثرية شعبية وثقت بالثورة ووجدت فيها الهواء النظيف الذي سيكنس الفساد والارتهان ويحيل المرتكبين إلى القضاء. ولا يغير بالأمر شيئاً أن بعض هذا التحالف هو خارج جنة الحكم في آخر 3 سنوات، فكلهم سواسية في المسؤولية! منذ عام 2011 قامروا بالودائع لتغطية النهب وعجوزات الموازنة، وازدهر الاقتصاد الموازي للدويلة، وحتى عام 2018 فقط جنى الكارتل المصرفي السياسي أرباحاً صافية: 25 مليار دولار. اقتنصوا الثروات وحصد البلد الخسائر، وما بعد الثورة هرّبوا عشرات المليارات، جُلّها أموال المودعين ليتأكد أن الانقسام العمودي ليس مفتعلاً. ومضلل من يروج إلى «حل» ما مع من أوصل البلد، عن وعي، إلى التهلكة، ورمى أهله في الجحيم.
اعتبرت حكومات ما بعد ثورة «17 تشرين»، وكذلك البرلمان، ما يواجه البلد تفصيلاً، وراحوا يغطون ارتكاباتهم المستمرة؛ مرة بالإعلان أن العلاج ستوفره الثروة الغازية والنفطية الموعودة (...)! وأخرى بالزعم أن العالم لن يترك الانهيار يطبق، فيما الناس محاصرة بالجوع والموت على أبواب المستشفيات! وجثث الهاربين في «قوارب الموت» لم تنتشل وتركت طعماً للسمك! إنه الفساد المحمي بسلاح الدويلة التي تعمم مفاهيم من نوع «الشاطر ما يموت» ليتم اغتيال حاضر الناس ومستقبلهم بعد زمن خداع كان عنوانه «الليرة بخير»!
التغيير لكي يكون كاملاً متعذر من دون استنهاض الناس أصحاب المصلحة، لتعديل ميزان القوى وبلورة البديل: «الكتلة التاريخية»، مع التأكيد بأن مشهدية «17 تشرين» لن تتكرر، فوحده قيام أحزاب تشرينية تحمل قيم المساءلة والعدالة وحماية حق الاختلاف والمنطلق استعادة الدولة المخطوفة يمكن معها استعادة ثقة المواطنين. والشرط الشارط لكسر الاستبداد بروز حالات سياسية منظمة تحمل القيم التي بلورتها الثورة وسكنت وجدان الناس، حتى يُعاد التأكيد أن اللبنانيين أهل البلد وليسوا مستأجرين عند تحالف مافياوي محمي ببندقية «حزب الله»! إذاك سيكون عسيراً استهداف «اليونيفيل»، ولن تصادر الحقيقة وتحجب العدالة وتعطل المساءلة... وإلا البديل ما وصّفه الكاتب رفيق خوري «زحام على رئاسة مطلوب منها استكمال الإجهاز على الجمهورية»!