د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

الميزانية السعودية... دور التحول الهيكلي والتكنولوجي

أطلقت السعودية ميزانية عام 2023 بإجمالي إيرادات بلغ 1130 مليار ريال وإجمالي نفقات بلغ 1114 مليار ريال، مسجلة فائضاً مالياً مقداره 16 مليار ريال، حيث ركزت أهداف الميزانية على التحول الهيكلي والتقدم التكنولوجي.
وتأتي الميزانية داعمة لاستمرار الاستدامة المالية، ومتابعة مسيرة الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية، الهادفة إلى تقوية الموقف المالي السعودي، وتعزيز مرونة الاقتصاد، ومواكبته للمتغيرات العالمية المتسارعة، إذ تسعى إلى مواصلة تنفيذ البرامج والمشروعات الداعمة للنمو، وتوسيع القاعدة الاقتصادية، وتحقيق التنمية الشاملة. وتعكس الميزانية الجهود التي تبذلها الحكومة في تحقيق الهدف الأساسي من الإصلاحات المالية في مرحلتها الأولى، التي انطلقت تحت مسمى برنامج التوازن المالي، الذي كان يستهدف السيطرة على معدلات العجز المرتفعة، للوصول إلى التوازن المالي.
ينظر للتحول الهيكلي اقتصادياً على أنه مجموعة التغييرات الاقتصادية والمؤسساتية الضرورية لاستمرار نمو الدخل والناتج المحلي، من خلال زيادة تراكم رأس المال المادي والبشري وتغيير هيكلية الطلب الكلي والإنتاج والتجارة الدولية، بالتوازي مع زيادة مستوى دخل الفرد للوصول إلى مرحلة تنموية متقدمة، حيث يتأثر التحول الهيكلي بدرجة كبيرة بالتقدم التكنولوجي الذي هو العملية الشاملة للاختراع والابتكار لنشر التكنولوجيا، ويكمن التغير التكنولوجي في جوهر اختراع التكنولوجيات وتسويقها عن طريق البحث والتطوير، والتحسين المستمر للتكنولوجيا (التي غالباً ما تصبح فيها أقل تكلفة)، ونشر التكنولوجيات في جميع القطاعات حسب التخصص كالصناعة والزراعة والخدمات، إضافة إلى أن التقدم التكنولوجي يعتمد على التقنية الأفضل والأكثر تقدماً. استناداً إلى التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2021، انخفضت مساهمة قطاعات الصناعات التحويلية والزراعية في توليد الناتج المحلي الإجمالي، إذ تساهم الزراعة والصيد والغابات بنسبة 2.3 في المائة في توليد الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، والصناعات التحويلية بمقدار 13 في المائة، في حين تساهم الصناعات الاستخراجية بنسبة 25.7 في المائة. وهذا يتطلب زيادة مساهمة القطاعات السلعية في الاقتصاد السعودي؛ إذ إن مساهمات القطاعات السلعية تمثل 47.9 في المائة في توليد الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع مصر 42.6 في المائة، والإمارات 45.8 في المائة، والعراق 56.1 في المائة (حيث إن 44.2 في المائة تعود إلى الصناعات الاستخراجية)، والمغرب 39.4 في المائة خلال عام 2021.
حدد الاقتصاديون مصادر النمو، إذ تعود إلى خمسة متغيرات، هي التوسع في الطلب الاستهلاكي والطلب الاستثماري والتوسع في الصادرات وزيادة أحلال الواردات، ومن ثم التقدم التكنولوجي من خلال الابتكار والإبداع والبحث العلمي، إذ إن هذه المتغيرات تلعب دوراً مهماً في الاقتصاد السعودي، فقد أكد بيان الميزانية أهمية توسيع القاعدة الصناعية لتصبح مصدراً أساسياً للدخل، إذ تعد الصناعة مصدراً أساسياً للنمو إذا كانت نصيبها في الناتج المحلي الإجمالي لا يقل عن 25 في المائة، لكن البيانات تبين أن مساهمة الصناعة التحويلية في الإنتاج المحلي الإجمالي بلغت حوالي 13 في المائة في السعودية عام 2021، استناداً إلى بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2021، ومقارنة بالدول حديثة العهد بالتصنيع مثل البرازيل وتايوان وماليزيا، فإنها منخفضة بالمقارنة مع هذه الدول، حيث بلغت في ماليزيا حوالي 23.9 في المائة استناداً إلى بيانات صندوق النقد الدولي 2022.
ومن الجدير بالإشارة، تستهدف المرحلة الثانية، تحت مسمى برنامج الاستدامة المالية، الذي يركز على وضع قواعد ومؤشرات مالية مستدامة، من خلال مستويات إنفاق تتسم بالاستقرار، وموجهة لإنفاق استراتيجي يدعم التغير أو التحول الهيكلي في الاقتصاد، لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، في إطار يضمن المحافظة على مستويات مناسبة من الاحتياطيات، ويضمن استدامة الدين العام، إذ تعني الاستدامة المالية الحالة المالية التي تكون فيها الدولة قادرة على الاستمرار في سياسات الإنفاق، والإيرادات المالية مدة طويلة دون خفض الموازنة المالية، أو التعرض لخطر الإفلاس أو عدم الوفاء بالتزاماتها المالية المستقبلية.
أكد بيان الميزانية على الاستمرار في تنفيذ المشروعات الكبرى والمبادرات المعلنة، كبرامج التحول الوطني، وتطوير الصناعة الوطنية، والخدمات اللوجيستية، وجودة الحياة، ومبادرة السعودية الخضراء، وغيرها من برامج ومبادرات ومشروعات، من شأنها تحقيق تغيرات هيكلية إيجابية، تؤدي إلى توسيع القاعدة الاقتصادية، ورفع مستوى جودة حياة المواطنين.
إن الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي شهدتها السعودية، ساهمت في مواصلة دفع عجلة النمو، رغم التحديات والأزمات المختلفة التي تواجه اقتصادات العالم، والتي تؤثر على مسار نمو الاقتصاد العالمي، وآفاقه المستقبلية، كأزمة الغذاء والتضخم وتعطل سلاسل الإمداد والاضطرابات الجيوسياسية.
وفي الختام، تستهدف الميزانية تحقيق التنمية الشاملة وتوفير فرص عمل وأعمال جديدة ورفع جودة حياة المواطنين، وتبني سياسات متسقة لمواجهة الأزمات العالمية، والسعي نحو تمكين القطاع الخاص من قيادة النمو الاقتصادي، ومواصلة جهودها في رفع كفاءة الإنفاق والضبط المالي؛ حيث تستهدف تحقيق التنمية الشاملة على المستويين المناطقي والقطاعي، وتطوير القطاعات الواعدة التي تساهم في تحقيق عوائد اقتصادية واجتماعية، كذلك توطين الصناعات العسكرية، مع الاستمرار في تنفيذ برامج ومبادرات منظومة الدعم والحماية الاجتماعية، مع التركيز على التحول الهيكلي والتقدم التكنولوجي.