كأس العالم المثالية في عصرنا الغريب

كأس العالم المثالية في عصرنا الغريب

الاثنين - 26 جمادى الأولى 1444 هـ - 19 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16092]

أياً كان ما سوف يحدث في نهائي كأس العالم لكرة القدم يوم الأحد، فإنَّ أوروبا سوف تظل القوة المهيمنة على كرة القدم العالمية. وانتصار الأرجنتين على فرنسا لن يغير حقائق العولمة الاقتصادية. فالدوري الإنجليزي الممتاز وحده يجلب من الأموال في كل موسم أكثر مما تجلبه بطولة كأس العالم التي تقام مرة كل أربع سنوات، كما تُطل مباريات كرة القدم الأوروبية على بقية أرجاء العالم، ولهذا السبب يلعب نصف اللاعبين في البطولة في خمسة دوريات أوروبية كبرى فقط. ومع ذلك، فإن شيئاً ما سوف يتغير أيضاً.
مرت 16 عاماً على المباراة النهائية لكأس العالم التي جرت في أوروبا؛ إذ اتخذت بعض القوى الصاعدة في جنوب العالم - جنوب أفريقيا، والبرازيل، والآن قطر - دورها الموعود. فقد حملت جنوب أفريقيا عام 2010 طموحات عموم القارة الأفريقية التي بدت للحظة وكأنها صارت حقيقة واقعة، مع استعداد غانا للتأهل لدور نصف النهائي. كانت البرازيل في عام 2014 تحتفي بالبرازيل تحت زعامة لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، وبمشاركة الحكومات اليسارية التي نجحت في تحويل وجه القارة، مع أن ذلك الحدث قد انتهى وكأنه مجرد يقظة.
أما «قطر 2022»، على النقيض من ذلك، فقد كانت دائماً تتعلق بقطر - رؤيتها، وسمعتها، ورغم الانتقادات الموجهة إلى البلاد، فقد حققت الكثير مما كان مطلوباً. بعد أربعة أسابيع من كرة القدم شبه الدائمة، والحوارات الميدانية المريرة أحياناً التي رافقت ذلك، أصبح موقف قطر في العالم أقوى بشكل ملحوظ.
مع ذلك، باعتبارها أولَ بطولة لكأس العالم لكرة القدم في دولة ناطقة بالعربية وذات أغلبية مسلمة، فقد كانت تتطلع أيضاً إلى الإعراب عن شيء آخر. فمن حيث التوقيت، والجماهير الحاشدة، والحوارات المصاحبة، قدمت البطولة نسخة من العالم أصبح فيها الجنوب العالمي، بكل تعقيداته التي لا تعد ولا تحصى، أكثر حضوراً وقوة. حقاً، كانت هذه كأس العالم الملائمة لعصرنا.
إن نصفَ الكرة الجنوبي معتادٌ على استضافة كأس العالم الشتوية، ولكن في الشمال، ولا سيما في أوروبا، فإن مشاهدة البطولة عبارة عن مهرجان صيفي لمدة شهر كامل من المرح في الأماكن العامة وحدائق البيرة. حتى «الفيفا»، لم يستطع مواجهة احتمال اللعب في حر الصيف الخليجي، وفي الملاعب المكيفة من عدمه، وأعاد ترتيب التقويم العالمي لكرة القدم بأكمله ليتناسب مع مُناخ قطر. والنتيجة أن أوروبا تشعر الآن بالبرد والناس في منازلهم، رغم أن أرقام المشاهدة جيدة، لكن الإحساس العام بكأس العالم كطقس جماعي كان أقل بكثير. وعلى النقيض من ذلك، غمرت الاحتفالات الشوارع والميادين التي هي أكثر دفئاً في داكار، والرباط، وروزاريو، والرياض.
تعكس الجماهير المحتشدة في الدوحة، داخل وخارج الملاعب، إعادة المعايرة العالمية المذكورة. وبطبيعة الحال، فإن ما نراه منهم على الشاشة قد رُصد بعناية. ووظفت قطر «الألتراس» الخاص بها - مشجعي كرة القدم المنظمين للغاية والذين يمكن العثور عليهم في جميع أرجاء العالم - من لبنان، ومن بين المهاجرين العرب إلى الدوحة، ودفعت لمجموعات من المشجعين للسفر من كل دولة مؤهلة للبطولة، لكننا ما زلنا نرى ما يكفي لندرك أن هذه هي أكثر الحشود تنوعاً في كأس العالم بصفة عامة، ورغم الحجم الهائل لأنظمة الخطابات العامة في الملاعب، والموسيقى التي لا تكل المنبعثة منها، فإن ما يصدر عن الجماهير، وأصواتهم وطاقاتهم، هو القلب الحي لهذا المشهد.
من جانبهم، شكّل القطريون واجهة مهمة، وإن كانت مقيدة، لذلك المشهد. كان الرجال يرتدون أثوابهم البيضاء النقية، والنساء في العباءات السوداء، مما خلق لوحة جمالية مختلفة تماماً عن الذكورية المتعجرفة، ولوحة اللون الباهتة التي تسود في أوروبا. وقد كانت دول الخليج الأخرى ممثلة بصورة جيدة، لا سيما السعوديين والإماراتيين؛ إذ مزجوا قمصان المنتخب الوطني بالألبسة التقليدية.
في هذا المناخ المتجانس، ظهرت أوجه التضامن بين البلدان العربية والبلدان الأفريقية على نحو يدعو للفخر. واستمتعت تونس بصفة خاصة بالتوبيخ الذي وجّهته لفرنسا ما بعد الاستعمار، بفوزها على المنتخب الفرنسي الثاني، رغم مغادرتها دور المجموعات، وكذلك الفوز الصاعق الذي حققته السعودية على الأرجنتين، غير أن مسيرة المغرب اللافتة للنظر إلى الدور قبل النهائي هي التي اجتذبت أكبر الحشود، وقدمت أكثر الاحتفالات كثافة وحدة.
لقد جمعوا بين المغاربة الزائرين، وعدد كبير من العمال المهاجرين المغاربة في قطر، ومئات الآلاف من المصريين، والأردنيين، واللبنانيين الذين يعيشون ويعملون في قطر. وانضمت إليهم حشود غفيرة في المغرب نفسه، وفي جميع أنحاء العالم العربي، وفي أوساط المغاربة المهاجرين في أوروبا، وربما بشكل مكثف أكثر من أي مكان آخر، في صفوف الفلسطينيين الذين كانت رايتهم وقضيتهم جزءاً واضحاً للغاية من احتفالات الفريق المغربي، وموضوع العديد من أغاني الحشود المشجعة.
وكان لجنوب آسيا، والهنود بصورة خاصة، وجود على قدر كبير من الأهمية. بدلاً من ذلك، إنهم يتألفون من خليط من الأسر الهندية المهاجرة الراسخة في قطر، وطبقة جديدة من الهنود الأثرياء الذين اكتسبوا مذاقاً لكرة القدم. وإذا حكمنا من خلال مشاهد الحشود المنبهرة الهائلة في كيرالا وبنغلاديش وهي تحتفل بأهداف الأرجنتين، فهم ليسوا وحدهم في حماسهم، حتى في المنطقة التي تتسيّد فيها لعبة الكريكيت على غيرها. أما بالنسبة للأرجنتين، فقد وفَّرت هي والمكسيك - مُعززة بشريحة من الأميركيين المكسيكيين - أكبر المتابعين الأجانب وأكثرهم ضجيجاً.مثل هذه الحيوية والطاقة تقف في تناقض صارخ مع المشجعين الأوروبيين، الذين كانوا في معظمهم جماعات صغيرة نسبياً، تجسَّدت في الشريط الصغير البرتقالي الهولندي في محيط من السماء الأرجنتينية الزرقاء في ربع النهائي. وكان الويلزيون، الذين شاركوا في كأس العالم لأول مرة منذ 58 عاماً، حاضرين هناك، وكذلك الأميركيون، والإنجليز، والألمان، ولكن مقارنة بالحضور في نهائيات كأس العالم الثلاثة الماضية، ناهيكم بألمانيا في عام 2006، فإن الأقليات في تقلص مستمر.
وبوسعنا أن نرى نفس التحول في صياغة البطولة. منذ نحو عقد من الزمان، وضع الشمال العالمي، لا سيما الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، والدول الاسكندنافية، جدول أعمال مونديال قطر. وبمساعدة الانفتاح النسبي للبلاد على الصحافيين الأجانب، انتقدت وسائل الإعلام، والمنظمات غير الحكومية، واتحادات كرة القدم، أوجه القصور في قطر، لكن جانباً كبيراً من بقية العالم لا يرى الأمور من هذه الزاوية.
ومن اللافت للنظر، أن التغطية الإعلامية في كل بلدان الجنوب العالمي تقريباً كانت رياضية بصورة بحتة، في حين كانت الصحافة العربية واضحة للغاية حين اعتبرت «قطر عام 2022» أفضل بطولة لكأس العالم على الإطلاق. وعلى النقيض من الجنوب أفريقيين أو البرازيليين، تمكّن القطريون من فرض إرادتهم على الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، ومؤسسة عالمية بحجم «InBev» (إن بيف)، من دون تفويت أي شيء.
* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات رأي اخرى

اختيارات المحرر

فيديو