إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

يهودي يغيّر دينَه

تقول له والدته: «امكث معنا قليلاً. لا تذهب إلى فندق». يبتسم الابن ويسحب حقيبة السفر إلى الغرفة التي كانت مهد طفولته وشبابه. هو الآن في الخمسين. ممثل ذو شهرةٍ وقبول. غابَ ثلاث سنوات في أميركا وعاد إلى شقةِ العائلة في باريس. سيمكث فيها قليلاً، لا نزولاً عند رغبة والديه العجوزين، بل تلبية لنداء العذراء مريم.
هذه هي فكرة الفيلم «الخطير» الذي يعرض في الصالات الفرنسية هذه الأيام. وكاتب الفيلم ومخرجه وبطله هو النجم الفرنسي غاد المالح، المولود في المغرب. إنَّه لا يقدم قصة من الخيال بل يروي واقعاً يعيشه. خطير لأنَّه يقتحم موضوعاً بالغ الحساسية.
رجلٌ يهوديٌّ يقرر أن يتحول إلى المسيحية بمذهبها الكاثوليكي. وهو ليس أياً كان، بل فنانٌ معروفٌ يتنقل ما بين الجد والهزل، له ملايين المعجبين في فرنسا وخارجها.
نشأ المالح في الدار البيضاء، حيث تتواءم أديانٌ سماويةٌ ثلاثة. كان خارجاً من المدرسة، ذات يوم، حين دفع بوابة كنيسة وانبهر بتمثال العذراء.
وقف الولدُ أمامَها وتخيّل أنَّها تمدُّ له ذراعيها. أصابه سحرٌ ما وشعر بأنَّها تحميه. كبر ونضج معه ذلك الشعور. اتَّصل بكاهن مسيحي وراح يرتّب الخطوة الحاسمة. مراسم تعميدِه مسيحياً. كيف سيخبر والديه اليهوديين المتدينين بقراره؟
لم يأتِ المخرج بممثلين محترفين. ما كان يمكن أن يقومَ بدوري أمه ريجين وأبيه دافيد سوى ريجين ودافيد المالح. جاء أيضاً بشقيقته جوديث للظهور في الفيلم. لكنَّ أخاه آرييه امتنع عن المشاركة رغم أنَّه يشتغل بالتمثيل.
واجه البطل صدمة العائلة حول مائدة العشاء. كان ذلك قبل أن يأخذَ الجدل مداه في الفضاء العام. ثار الأبُ واكتأبت الأم. قالت لولدها البكر: «أن تترك دينَنا معناه أن تتخلَّى عن هويتك وتنكرنا».
تذهب لتقفَ أمام تمثال مريم في إحدى الكنائس وتعاتبها: «أنت تعرفين فقدانَ الولد... كيف تأخذين مني ولدي؟».
يسرح بنا الفيلم في عقل البطل. نتابع يقينه وشكوكَه وخشيتَه من القفزة التي يُقدم عليها. نسمع حواراته مع أصدقائه الغاضبين. مع الكاهن الذي يقدم له المشورة ويجيب عن أسئلته الوجودية.
يقول غاد المالح، في إحدى مقابلاته، إنَّه تلقى تربية تلمودية. ودرس في الـ«يشيفا». مدرسة دينية لتعليم الشريعة اليهودية. كما تلقَّى دروساً في اللغة العبرية. نشأ في المغرب، حيث تجد جامعاً بجوار كنيسة أو كنيس. كان رفاقه خليطاً من يهود ومسلمين ومسيحيين فرنسيين. وجمهور حفلاته خليط أيضاً.
يذهب ليستشير أستاذة من أهل المعرفة. يسألها: «ماذا يحدث إذا ندمت ورغبت في العودة إلى ديني؟» تجيبه بأن لا عودة لأنَّ اليهودي، أساساً، لا يخرج من دينه. سيبقى يهودياً. أمَّا الحاخام الظريف فله رأي آخر: «هل دخلتم معبداً يهودياً؟ إنَّ معابدنا قاتمةٌ وحزينةٌ في حين أنَّ كنائس المسيحيين جميلة تزينها الشبابيك الملونة والأزهار ولوحات الفنانين، وتصدح فيها الموسيقى». هي مسألة ذوق وليست رغبة حقيقية في تغيير المعتقد.
تحلّ الكاثوليكية في المرتبة الأولى في فرنسا بحسب عدد معتنقيها. والدين الثاني هو الإسلام. والثالثة هي البروتستانتية. ويأتي الدين اليهودي في المرتبة الرابعة. وبعده البوذية. إنَّ للسيدة مريم تقديرَها لدى المسلمين، لكن غاد المالح يعترف بأنَّ الإعجاب بها لا يجوز عند اليهود. خطيئة قصوى، بل وثنية. لهذا نراه ينسحب من دوره في طقس المعمودية، يحمل حقيبة سفره خارجاً من بيت العائلة، ماضياً ليواصل ثورة الشك وهو يتأبط لوحة للعذراء رسمتها أمُّه. فيلم خفيف عميق في آن. فضيلته أنَّه يناقش الممنوع.