د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

القيادة... الحيرة الأبدية

يحسب للألمان الفضل بأنهم أول من قاموا بمحاولات علمية لدراسة «القياديين»، بعد أن خرجوا من الحرب العالمية يجرون أذيال الهزيمة. كان وقع الصدمة كبيراً عليهم، فبدأوا في البحث عن طريقة علمية لدراسة من يستحق أن يطلق عليه لقب «قائد». وجمعوا العلماء الذين طوروا لهم استبانات تقيس المهارات القيادية.
وتراكمت الأبحاث ودخل الأميركيون على الخط كالعادة في أبحاث عميقة جمعت جل ما كتب في السير والتراجم عن وصف القادة، ليخرج العالم الكبير ستوغدل ببحث هائل ما زال مرجعاً كبيراً لمن يريد قراءة حصيلة صفات القادة. وتوغل في الكتب التي نشرت عن القياديين منذ عام 1904 حتى 1974 في بحثين منفصلين، خلاصة الأول أن القيادي يتمتع بصفات، أبرزها الذكاء والبصيرة والإصرار والثقة بالنفس. وأكدت المحاولة الثانية ما جاء في الأولى بشيء من التوسع للصفات، ولمحت إلى عنصر الموقف. ومنذ ذلك الحين ومحاولات الأعلام في هذا الميدان تأتي بصفة جديدة وتزيح أخرى. فلم يزد ذلك المهتمين إلا حيرة.
وبعد حقبة من الزمن، تطورت الأبحاث ليكتشف العلماء أن مجموعة صفات مجردة لا تصنع من الفرد قائداً. فلا بد من دراسة «سلوكيات» البشر في مواضع عديدة. فبرزت تساؤلات عديدة وهي، لماذا يتصرف من يتحلى بصفات قيادية بارزة في موقف ما بصورة تتناقض كلية مع ما صنعه البارحة على رؤوس الأشهاد. فتبين عبر نظريات عدة أُشبعت بحثاً، أن عنصر «الموقف» أيضاً يتدخل في رسم المشهد أو تصرف القائد. فمثلاً حينما تتعرض شركة لسرقة أو اختلاسات أو حفلة تسيب اكتشفها من يقودهم، قد ينقلب ذلك الوديع أو «محبوب الجماهير» إلى شخص في غاية الشدة والحزم. فينقلب رأساً على عقب في سبيل ضمان حسن قيادة دفة السفينة إلى بر الأمان.
وبعد ركام الأبحاث وصلنا حالياً إلى ما يسمى حقبة الموقف. فالقائد المؤثر هو الذي يعرف كيف يتصرف في كل موقف على حدة. فعندما يكون سلوكه نقيضاً لسلوك سابق قد يكون سبب ذلك هو مقتضيات الموقف الذي تطلب حزماً تارة وليناً تارة أخرى.
ومن لا يفهم هذه المعادلة يصطدم بخيرة البشر، لأنه يعاملهم مع المتراخين كأسنان المشط، وينسى رصيد تفانيهم مع أول زلة غير مقصودة من زلاتهم. وهذا ما يجعل القيادة قضية محيرة في أذهان الكثيرين.