ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

سلم في أوكرانيا؟

رغم استعادة جزء لا يستهان به من الأراضي التي احتلتها روسيا، وإخراج القوات الروسية منها، عاد الحديث عن «السلم» لإنهاء أخطر نزاع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
في غضون ذلك، أدى انفجار قذيفة صاروخية في بولندا، لم يعرف بعد مصدرها بالتحديد وراح ضحيتها مواطنان من هذا البلد، إلى زيادة التوتر على هذه الحدود، بينما كان فولوديمير زيلنسكي يدعو أمام الصحافيين إلى الإسراع في فتح «محادثات السلام» بين روسيا وأوكرانيا، مطالباً بأن تعيد روسيا جميع المناطق التي احتلتها، الأمر الذي وصفه وزير الخارجية الروسي بأنه «مطلب مبالغ فيه».
لن يكون سهلاً فتح «محادثات السلام» في الوقت الراهن. وفي اعتقادي، أنه رغم رفض غالبية الروس للحرب، فهم يعدون أن أوكرانيا لا تزال جزءاً من روسيا، نظراً للروابط التاريخية بين البلدين، حيث كان ملوك روسيا في الماضي من الأوكرانيين وليس من الروس، والوشائج الوثيقة بين الدولتين اللتين حكمهما ستالين وخروتشيف كدولة واحدة. وبلغ الأمر بالأخير أن أعاد تنظيم الأراضي الأوكرانية لتكون في خدمة مصالح الاتحاد السوفياتي وليس مصالح المجتمع الأوكراني.
وقد استوقفتني مؤخراً، في هذا الصدد، تصريحات لكاتبة أوكرانية ترجمت أعمالها إلى الإسبانية، تشير فيها إلى الصلات الوثيقة التي كانت تربط بين روسيا وأوكرانيا في الماضي، حيث غالبية الأوكرانيين تتحدث اللغة الروسية التي هي لغة العلم في مدارسهم، بينما الآن، وبسبب من الحرب بين البلدين، ينأى الأوكرانيون عن هذا الإرث التقليدي، ويجنحون نحو استخدام اللغة الأوكرانية في المدارس ووسائل الإعلام والإنتاج الأدبي. وفي ذلك حجة أخرى تدفع للقول إن الحرب على أوكرانيا ستبعد هذا البلد عن روسيا بعد أن كان لصيقاً بها لسنوات بعيدة. هل كان في حسابات بوتين عندما أعلن هذه الحرب واتهم الحكومة الأوكرانية بالنازية، أن مثل هذه الاتهامات ستؤدي إلى قطع الروابط الوثيقة التي كانت قائمة بين هذين الشعبين في الماضي؟
نعرف أن العلاقات بين الدول المجاورة عرضة للتغيير، والقرن الماضي شاهد على تقلب التحالفات، وكيف أدت الاعتبارات السياسية إلى التباعد بين الدول الحليفة التي، بحكم التواطؤ الذي كان قائماً بينها طوال عقود، كان العالم ينظر إليها كبلد واحد وليس كبلدان متجاورة. ولا شك في أن الحرب قد قطعت ربما هذه العروة التاريخية الوثيقة. هذه واحدة من أسوأ مخلفات النزاع.
في غضون ذلك، يشكل ازدياد الصعوبات التي تواجه روسيا عقبة أمام مفاوضات السلام التي كان يجب أن تبدأ منذ فترة، لأن العائق الرئيسي الذي يحول دونها هي الحرب ذاتها بين البلدين. ولا شك في أن الصعوبة الكبرى التي تمنع انطلاق هذه المفاوضات هي الاصرار على إذلال أوكرانيا، الأمر الذي يصعب تصوره في ضوء المسار الراهن لهذه الحرب وتداعياتها الدولية.
على أي حال، يكمن العائق الأكبر في الحجة التي استندت إليها روسيا عندما اتهمت أوكرانيا، كذريعة لاجتياحها، بأنها سلمت أمرها لحفنة من النازيين الذين يتحكمون في زمام السلطة. واستناداً إلى تلك الاتهامات، كان من المفترض بالأوكرانيين أن يستقبلوا القوات الغازية بوصفها جاءت لتحررهم، لكن من الواضح أن ذلك لم يحصل. وأن الأوكرانيين كانوا فاعلين جداً، وتمكنوا من صد الهجوم ودفع الجيش الروسي إلى التراجع. نتيجة الدعم الذي تحصل عليه أوكرانيا من الحلف الأطلسي، وبالأخص من الولايات المتحدة التي تمول القسم الأكبر من المقاومة الأوكرانية ضد الاجتياح الروسي.
ويتضح من الوضع الراهن أنه من الصعب جداً توافر الأجواء المناسبة للبدء في مفاوضات السلام، إلا بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ومع استمرار الحرب تلوح بوادر نزاع آخر، حيث إن أوكرانيا، مدفوعة بانتصاراتها العسكرية، يمكن أن تطالب بإجراء مفاوضات السلام وفقاً لشروط يستحيل أن تقبل بها روسيا، الأمر الذي سيؤدي إلى إطالة الحرب ودفع روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية. عندئذ تنفتح أبواب المواجهة النووية بين الدول الكبرى، مهددة بفناء 90 في المائة من الكائنات الحية، إن لم يكن أكثر.
الفرصة الوحيدة لفتح باب مفاوضات السلام حول أخطر أزمة تواجه العالم اليوم، هو اقناع الطرفين بإيجاد مخرج لها.
روسيا وحدها هي التي تتحكم في مصير مفاوضات السلام العادلة التي تضمن استقلال أوكرانيا الذي يتوقف على استعداد موسكو لإعادة جميع الأراضي الأوكرانية التي احتلتها. ومن الواضح أن أوكرانيا لن تخضع للمزيد من الإذلال بعد ما وقع لها من ضحايا، وما أبدته في هذه الحرب التي شنها عليها جارها العملاق.
إن إمكانية المباشرة في مفاوضات السلام مرهونة بإقدام القوى الفاعلة في روسيا، على ذلك. لكن ذلك يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر، بينما تستمر الحرب التي تملأ حقول أوروبا بالضحايا البريئة. إلى متى؟