خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

كأس العالم: اللعب أصدق إنباء من الكتب

نعم في كرة القدم 22 لاعباً يطاردون كرة. بالإضافة إلى ثلاثة حكام ملعب، وآخرين يتابعون كاميرات التحكيم، وأطقم إدارية، وعشرات آلاف الحضور، ومئات الملايين حول العالم يشاهدون. ليلة كبيرة سعادتك. لكن هذا ليس دليلاً على شيوع التفاهة، كما يردد بعضهم. في كرة القدم معجزة تطورية تقف خلف شعبيتها المذهلة.
اللعب مدرسة الإنسان الكبرى، وساحة استعداده لمواجهة الحياة. لكي يتدرب على القنص لعب بمهارات الصيد وتحدى أقرانه على التصويب بالرمح أو الرمي بالسهم. لكي يتدرب على القتال صارع أقرانه. لكي ينمي قدراته الحسابية اخترع ألغازاً. لكي يتعلم التخطيط الاستراتيجي لعب «شطرنج». ولكي يتعلم التزين لعب بالعرائس. لا شيء في حياتنا، ولا حياة الثدييات والطيور، لا نتدرب عليه باللعب.
في كل المهارات، القنص، الرماية، الماكياج، المبارزة، صناعة الأثاث، كرة السلة، الكرة الطائرة، وفي عزف الموسيقى ونقش الحروف، هناك عنصر مشترك، اليد البشرية، الأداة الجسدية التي تميز الإنسان في براعتها عن حيوانات تعجزه في الركض والطيران والرؤية والشم والاختباء. اليد عوضت عجز الإنسان بتمكينه من صناعة واستخدام أدوات تسد كل نقص. اليد ركيزة القدرة الجسدية للإنسان. إن أدخلت خيطاً في ثقب الإبرة من دون استخدام يدك سنعدها معجزة، لو استخدمت يدك فكلنا يفعل ذلك.
كرة القدم تحرم استخدام اليد تحريماً صارماً. من هنا فهي التحدي المهاري الأكبر للإنسان العادي، وهي الفرصة الأكبر للطفل كي ينمي مهارات بقية أعضاء جسده.
لاعبو الكرة يتحركون في ملعب طوله 105 أمتار، وعرضه 68 متراً، في ظل هذا المجهود المدمي للعضلات مطلوب منهم أن يراوغوا، أن يتبادلوا الكرات بدقة، ويستقبلوها بثبات. الاستقبال لا يرضى بأقل من الرائع في المستوى الاحترافي، وإلا فإن لاعباً من الفريق المنافس على بعد عشرة سنتيمترات منك سيستحوذ على الكرة، أو ستذهب في اتجاه يعطل الهجمة، وربما يضيع فرصة التهديف، وستصب الجماهير غضبها عليك فوراً. هذه المهارات جميعها تنفذ تحت ضغط جسدي ونفسي وذهني، ومن وضعي الثبات والحركة، وتتعامل مع كرات تأتي على مستويات مختلفة من الارتفاع، وتتطلب أن يتخذ اللاعب في كسر من الثانية وضعاً جسمياً مرتجلاً مناسباً.
هل توقفنا هنا؟ لا. بالكاد بدأنا. لاعبو الكرة يمارسون في الحقيقة «كوريوغرافي» يختلف عن مثيله في الاستعراضات المسرحية. اللوحات البشرية هنا مرسومة بخليط من الجمل التكتيكية - يمليها المدرب - والارتجال، الذي يخضع لظروف المباراة وعقلية اللاعبين وتحركات المنافسين. حين نرى جملة تكتيكية عظيمة ونصفق في المدرجات، فنحن في الحقيقة نصفق لهذا العرض الجمالي الذي نعلم صعوبته. كل الموضوع أننا - جمهور الكرة - لا نجيد إضفاء عبارات توحي بالغموض، لا نستخدم مثلاً عبارة «حركة الأجساد في الفراغ»، كما يفعل المسرحيون.
على الجانب المقابل، هناك لوحة أخرى يرسمها الفريق الذي فقد الكرة. في عصر التصوير الكومبيوتري، نستطيع بشكل أسهل أن نرى جمالية، وحرفة، ما يحدث. اللاعبون في وضع الدفاع قطع شطرنج ترص نفسها تلقائياً لكي تغلق الثغرات بشكل متناسق زمنياً. تحكم ذكي، وبشكل جماعي، في مساحة واسعة من الأرض. من المناسب هنا تذكر أن مساحة الملعب حوالي 7140 متراً مربعاً. بينما المساحات التي تشغلها أجساد اللاعبين لن تتخطى عشرة أمتار مربعة.
والبعد الأفقي ليس التحدي الوحيد في كرة القدم. لو استخدم الإنسان يده يستطيع ببساطة تغطية مساحة تمتد رأسياً لحوالي مترين ونصف المتر، تقفز لتلتقط كرة عالية، وتنحني على أبعاد مختلفة لكرة منخفضة. مطلوب من لاعب الكرة التعامل مع هذا أيضاً. السيطرة على الكرة في ارتفاعاتها الرأسية المختلفة، وتداولها، وتصويبها. بعض ارتفاعات الكرة صعبة كلوغاريتم، لكن العقل البشري، والجسد البشري، يبهراننا بحل مبتكر لهذا اللوغاريتم، فنرى الضربات المزدوجة الخلفية والأمامية والجانبية وتويستات الجسم غير المتوقعة.
تتطلب مهارات الحركة في الكرة مجموعة من المهارات الذهنية؛ أبرزها الوعي بالمساحة من حولك (وتموضع الرفاق والمنافسين فيها)، والتوقيت. وهذا الأخير - مع غياب اليد - مهارة إعجازية في حد ذاتها. الكرة تخرج من قدم لاعب في النقطة أ. في لحظة خروجها لا يمكن أن نحدد بدقة إلى أي نقطة ستصل، وفي أي ارتفاع، وبأي سرعة. لا نكاد نملك معطى واحداً من المعطيات التي تمكننا من حل المعادلة الفيزيائية الخاصة بها، ولو أجريناها في غرفة مكيفة واستغرقنا فيها ساعة كاملة. لكن لاعباً آخر في الفريق نفسه، وفي كسر من الثانية، وقبل أن ترتفع الكرة ارتفاعها النهائي، أو نعرف اتجاهها بالضبط، أو زاوية انحرافها في مسارها، يقرر أن يطير في الهواء بدقة كافية لجعل رأسه تلتقي بالكرة في نقطة ضمن ملايين النقاط في الفراغ. ليس هذا فقط، بل ينفذ التصادم بزاوية معينة من رأسه تجعل الكرة تذهب إلى زاوية معينة من المرمى لمحها بطرف عينه وهو يطير.
بينما نشاهد المباراة في التلفزيون، نرى المسافات بين اللاعبين قصيرة، ونرى الكرة من زاوية تكشف نقطة الانطلاق، والمسار، ونقطة الوصول، والمرمى. وتسمح لنا بممارسة الحكمة بأثر رجعي، فنلجأ إلى «لو». لو فعلوا كذا لكان كذا. لكن الأمر مختلف تماماً بالنسبة للاعبين. الذين يستشرفون التحديات، وعليهم أن يتعاملوا معها في وجهها، وليس من خلف ظهرها كما نفعل نحن.
ولا نتحدث هنا عن راقصي باليه أو لاعبي أكروبات، من ينفذون هذا رياضيون بكتلات عضلية ضخمة وسرعات نسبية مضاعفة، تتصادم وتهاجم وتراوغ وهي محتفظة بالكرة من دون استخدام اليد. هل من عرض للقوة مع الرشاقة أجمل من هذا. من لم يجرب مشاهدة، ولو مباراة واحدة، من الملعب، لن يدرك أبداً جمال كرة القدم وبراعتها.