إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

مذيع يشتم نائباً

في الدنيا معاركُ تستحقُّ رفعَ الأكمام والتشمير عن السواعد والنزول إلى الساحة، وأخرى هدفُها إثارةُ الغبارِ ولفتُ الأنظار وكسبُ الشهرة. ومن هذه الثانية ما يجري حالياً في باريس بين المذيع سيريل حنونة مقدم برنامج «لا تمسّ وظيفتي»، وبين النائب الشاب لوي بويار. وهي معركة مرشحة للوصول إلى المحاكم الجزائية، وحتى لوقفِ البرنامج الذي يتابعُه أكثرُ من مليوني مشاهدٍ كل ليلة.
لا يملكُ حنونة مقوماتِ الوجه التلفزيوني الناجح، لا بالشَّكل ولا بالمضمون. نشأ في أسرةٍ مهاجرة من تونس، وتقلّب في عدة أعمال قبل أن يصبحَ منتجاً ويراكمَ ثروة. إنَّ ميزته الوحيدة هي سفاهتُه، إذا كانت السفاهة ميزة. وهي التي صنعتْ شهرتَه. يجمع حوله في البرنامج عدداً من الوجوه المتنافرة، يشاركونَه التعليق على الأحداث بأسلوب تهريجي صاخب لا يعبأ بأيِّ محاذير. فكاهة منفلتة توحي للمشاهدين بأنَّ حنونة فوق كلّ الممنوعات، يستطيع في برنامجه أن يقولَ ما لا يُقال لدى غيره.
كان لوي بويار أحدَ الوجوه التي قدَّمها البرنامج. شابٌّ متحمسٌ في العشرين، مناضلٌ في الحركات الطلابية ومظاهرات «السترات الصفراء». اعترف في إحدى الحلقات بأنَّه باعَ المخدرات لكي ينفقَ على دراسةِ القانون في واحدة من كليات النخبة. وجهٌ مقبولٌ عالي الصوت من النوع الذي يتناسب مع اليسار المتطرف أو اليمين المتطرف، على حدٍّ سواء. تلقَّفه حزب «فرنسا الأبية»، وقدَّمه على لائحته في الانتخابات التشريعية الأخيرة. فاز بويار ودخل البرلمان نائباً بعد نضال سنتين فحسب، مثلما يحدث في الأنظمة الديمقراطية. وبهذه الصفة حلَّ ضيفاً، قبل أيام، على سيريل حنونة في البرنامج الذي ساهم في تلميع صورته. لماذا تعاركا؟
كان النقاشُ يدور حول سفينةِ المهاجرين التي وافقت فرنسا، لدوافع إنسانية، على استقبال ركَّابها فوق أراضيها. قرارٌ صائبٌ أم خاطئ؟ اليمين ضد القرار واليسار معه. وحزب بويار مع الفقراء ومع استقبال المهاجرين. وبهذا مضى في الحماسة، وانطلق يهاجم كبارَ الأثرياء الفرنسيين الذين ساهموا في «إفقار أفريقيا»، ومنهم فنسان بولوريه. والمشكلة أنَّ بولوريه هو مالك القناة التلفزيونية التي يُبثّ منها البرنامج.
ما كان يمكن لحنونة أن يسكتَ على المسّ بوليّ نعمتِه. أعاد تذكيرَ بويار بأنَّه كان يشارك في البرنامج، ويقبض مقابلَ ذلك فلوساً من بولوريه. والنائب العشرينيّ لا يسكتُ، بل يرفعُ الصَّوتَ ويلوّح بيديه ويكرّر اتهاماتِه. إلى أن فلتَ عيارُ مقدم البرنامج الفالت أصلاً، وراحَ يشتمُ ضيفَه بألفاظ من نوع: أحمق، مهرّج، عاجز، خاسر، لستَ سوى قاذورة. وأنا هنا أترجمُها «قاذورة»؛ لأنني لا أستطيع عرضها هنا، وأكتفي بأنَّها تبدأ بحرف الخاء.
قام بويار وغادر الاستوديو ولم تهدأ العاصفة. تداولتها وسائل الإعلام كافة. صارت القضية أمام الهيئة المكلفة مراقبةَ الوسائل السمعية البصرية. شيءٌ مثل محكمة الإذاعة والتلفزيون. إنَّ تهمة مهاجمة نائب يمارس وظيفته الرسمية قد تقود إلى السجن. وهناك احتمالُ توجيهِ تنبيه لحنونة، أو وقف برنامجِه من الأساس. وهي ليست المرة الأولى التي يواجهُ فيها شكاوى وعقوبات.
ويبقى أنَّ لكل شعب طريقتَه في الإهانة والسباب. وجماعتنا في العراق مبرَّزون في الميدان. وبعض عباراتهم عصمليّة من أيام الأتراك. ومثلهم اللبنانيون. يعرض التلفزيون فيلماً إسرائيلياً وتسمع الممثلين يتكلَّمون بالعبرية، لكنهم يشتمون بالعربية الدارجة. وهناك مصطلحٌ فرنسي في وصف المتشاتمين، هو أنَّهم يتبادلون «أسماء صغار الطيور»: صقر، ديك رومي، نَسر، دجاجة، وزّة، كناري. كيف يكون الكناري الجميل شتيمةً يا معشر الفرنجة؟!