جمال زقوت
TT

وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني في ظل الانقسام

شكل النهوض الوطني العارم لنضال الشعب الفلسطيني، الذي مثلت الانتفاضة الكبرى «1987» ذروة صعوده في رحلة استعادة هويته الوطنية والثقافية على أرض الآباء والأجداد، مرحلة فارقة لاختراق جدران محاولات الطمس والتصفية التي أعدت بإحكام في لحظة قاسية من مكر التاريخ عندما كان «العالم المعاصر يصوغ نظام قيمه الجديدة، وكانت موازين القوى المحلية والعالمية حينه تستثني المصير الفلسطيني من المصير العام، فاتضح مرة أخرى أن العدل وحده لا يُسَير عجلات التاريخ».
وعبر مسيرة كفاحه القاسية والمدماة أدرك الشعب الفلسطيني أن استعادة روح العدالة الشهيدة في هذه البلاد، يتطلب، بالإضافة لوحدته كجماعة وطنية، أن يبلور هويته الثقافية، ويؤسس لمبادئ العدالة الاجتماعية وروح التضامن الإنساني، وفي قلبها المساواة ونبذ التمييز.
بهذه الروح الرحبة والانفتاح المشبع بقوة الفخر والإرادة وقف الزعيم الراحل أبو عمار، الذي مثلت ذكرى اغتياله التي مرت قبل أيام حضور إرثه الطاغي في مسيرة شعبنا، على منصة المجلس الوطني التي مثلت إرادة الوطنية الجامعة لكل الفلسطينيين، ليعلن وثيقة الاستقلال، التي صاغ مفرداتها محمود درويش، وشكلت في جانبها التاريخي الإرادة الجمعية لقوة الحق الفلسطيني، وارتباط الشعب بأرض الآباء والأجداد، وانطلقت من الأساس القانوني بأن المجتمع الدولي في المادة «22» من ميثاق عصبة الأمم لعام 1919، ومعاهدة لوزان لعام 1923 قد اعترف بأن الشعب العربي الفلسطيني شأنه شأن الشعوب العربية الأخرى، التي انسلخت عن الدولة العثمانية هو شعب حر مستقل. هذا بالإضافة للقرار الأممي 181 لعام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين لدولتين.
الأمر الأهم الذي مثلته وثيقة إعلان الاستقلال أنها، وبالإضافة لكونها بلورت رؤية متجددة للميثاق الوطني الفلسطيني، تجمع الحقوق المدنية بالحقوق الوطنية والأهداف السياسية، فقد أرست وبفعل قوة النهوض الوطني والمشاركة الديمقراطية العريضة في النضال ضد الاحتلال، الأسس والمبادئ الدستورية التي تلتزم بها دولة فلسطين العتيدة. وقد بات الإعلان بمثابة وثيقة دستورية حددت بلا لبس طبيعة النظام السياسي الفلسطيني باعتباره نظاماً ديمقراطياً برلمانياً، يقوم على أساس حرية الرأي والتعبير، وحرية تكوين الأحزاب ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية واحترام الأقلية قرارات الأغلبية. وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو اللون أو بين المرأة والرجل، في ظل دستور يُؤمن سيادة القانون والقضاء المستقل، وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الأديان عبر القرون.
لقد سعت القرارات السياسية التي اتخذتها الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني التي عرفت بمبادرة السلام الفلسطينية، إلى جانب وثيقة إعلان الاستقلال، إلى فتح طريق المشاركة الفلسطينية في التسوية السياسية التي أوصلت إلى مسار أوسلو في سبتمبر (أيلول) 1993، وقد بات واضحاً أنه بالإضافة لانقلاب إسرائيل على تلك المسيرة، رغم كل نواقصها المجحفة بحقوقنا الوطنية، مقترناً بالنفاق الدولي وازدواجية المعايير التي سعت دوماً للضغط على الطرف الأضعف لتقديم مزيد من التنازلات، فقد أدى سوء الإدارة التفاوضية وعدم تحصين الجبهة الداخلية وغياب استراتيجية عمل فلسطينية تكاملية، واعتماد ما يمكن تسميته سياسة «استرضاء العدو» في اللهاث وراء سراب تلك التسوية، إلى تآكل مواقف الإجماع الوطني، وتردي حالة الوحدة الوطنية، لدرجة أن الانتفاضة الثانية تحولت في بعض جوانبها إلى حالة صراع خفي على مستقبل قيادة الحركة الوطنية، أكثر بما لا يقاس من كونها كفاحاً شعبياً موحداً ضد الاحتلال، وقد جاء تغييب الزعيم الفلسطيني أبو عمار ليؤذن ببداية مرحلة جديدة في الصراع الداخلي على شرعية التمثيل، التي تُوِجت بالانقسام جراء انقلاب «حركة حماس» على السلطة، وتوالت العملية الانقلابية من قبل السلطة ذاتها على منظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت لمجرد تجمع استشاري في الصراع على الشرعية من ناحية، وهندسة مستقبل النظام السياسي «المنظمة والسلطة» من قبل الخلية المهيمنة عليهما.
الأمر الوحيد الذي ظل يوحد طرفي الانقسام تمثل في الانقلاب على المنجزات الديمقراطية والأسس الدستورية التي شكلتها وثيقة الاستقلال، حيث إن حكومة «حماس»، «الربانية» خَطت في الواقع دستورها في السيطرة على مكونات المجتمع في قطاع غزة، بينما تراجعت السلطة الفلسطينية الطابع العلماني للمنظمة، وعن مجمل المضامين التقدمية التي أسست لها وثيقة إعلان الاستقلال، في معركة التماهي على استخدام الغيبيات لتغييب الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
السمة الأساسية التي ميزت مرحلة الانقسام، وما زالت، تمثلت بالهيمنة الحزبية لسلطة «حماس» على قطاع غزة، وحكم الفرد الذي يتعمق تدريجياً في إطار السلطة، حيث أطيح بمبادئ الديمقراطية البرلمانية، ومبدأ الفصل بين السلطات، وهيمنة السلطة التنفيذية «الفردية الإقصائية والحزبية» على سلطة القضاء، كما تم احتكار الإعلام الرسمي في خدمة حالة الانقسام، ذلك كله على حساب الشعب والقضية الوطنية والمجتمع الفلسطيني بكل مكوناته، وفي مقدمتهم المرأة والشباب الذين يدفعون أثمان الانقسام الباهظة.
أمام هذا الانقلاب الشامل من طرفي الانقسام على روح ومضمون وثيقة إعلان الاستقلال ومبادئها السياسية والاجتماعية والمدنية والقانونية، وما آلت إليه حالة الانحدار في واقع الحركة الوطنية، وعجزها عن مواجهة تحديات صعود الفاشية الكاهانية في إسرائيل، والتي لا يمكن مجابهتها دون العودة للإرادة الشعبية بالوحدة والديمقراطية.
أمام ذلك كله، يبدو أنه لا مفر من وحدة كل الوطنيين والديمقراطيين الفلسطينيين، على أساس التمسك بالمبادئ التي أرستها وثيقة إعلان الاستقلال، وحتى لا تظل هذه المبادئ مجرد شعارات، أو يظل وصف واقع حال وهزيمة الحركة الوطنية مجرد تحليلٍ لأسباب الانحدار دون استخلاص أولويات الإجابة الوطنية على تحديات المستقبل، فقد بات الحال الراهن بأمسّ الحاجة لحوار وطني شامل ومسؤول، بعيداً عن مسار أوسلو والممارسة الانقلابية على المجتمع في ضفتي الانقسام، للتباحث حول سبل مواجهة مخاطر المرحلة القادمة، بما في ذلك البحث في مدى الحاجة للتوجه نحو عصيان مدني يلزم القوى الانقسامية باحترام الإرادة الشعبية لاستعادة الوحدة والديمقراطية والأسس الدستورية لوثيقة إعلان الاستقلال، وبما يمهد لاستعادة مؤسسات الوطنية الجامعة في السلطة والمنظمة بالوسائل السلمية وعبر الانتخابات الشاملة، والربط بين مهامهما في مواصلة مرحلتي التحرر الوطني والبناء الديمقراطي على حد سواء. إن إنجاز تلك المهام يتطلب فيما يتطلب تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية توقف حالة الانهيار، وتعزز صمود الناس، وتقوم بالتحضير الجدي للانتخاب خلال مدة لا تتجاوز نهاية العام القادم، بالتزامن مع إجراء إصلاح ديمقراطي جذري لمؤسسات منظمة التحرير بإجراء الانتخاب لمجلس وطني جديد «والتوافق حيث لا يمكن إجراؤها»، وإعادة الطابع الائتلافي للمنظمة باعتبارها جبهة وطنية عريضة لقيادة التحرر الوطني وممارسة شعبنا لحقه في تقرير المصير.