فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

أدوات الموسيقى وفضائل الحق

تثبت المدوّنات التاريخية التي تبحث في نقاط التماسّ بين الموسيقى والفلسفة أن محاولات الفصل بينهما قد فشلت… المجالان الموسيقي والفلسفي استمرا في التداخل، كل مجالٍ يغني الآخر، بل إذا رجعنا إلى فترات الذروة التي بلغت فيها الموسيقى أوْجها منذ القرن الـ18 وحتى الـ20، سنجد أن الفلسفة في تلك الفترة نفسها كانت مزدهرة، بل بلغت أقصى حالات الازدهار في تلك الفترة وأخصبها، فهي القرون التي شهدت استعادة «سؤال المعرفة» من «كانط» في القرن الـ18 إلى «مارتن هيدغر» في بحر القرن الـ20… «أدرنو» الفيلسوف والموسيقي ممن تأثّر بأنماط «هيغل» الكتابية، وأمه كانت مغنية، وهو ممن «دافع عن الموسيقى الحديثة، التي رأى أن مدرسة فيينا الثانية خير نموذج لها…وفي أبحاثه وظّف الأفكار الفرويدية والماركسية في خدمة الموسيقى الطليعية»، وذلك بحسب «علي الشوك» في الجزء الرابع من كتابه «أسرار الموسيقى».
وإذا عدنا إلى صفحات مذكرات «تشايكوفيسكي»، التي ربتْ على الـ600 صفحة، سنعثر على غنى التأثير الفلسفي على رؤيته الفنية، وفي استهلال الكتاب تذكر «ألكسندرا أورلوفا»، وهي المحرّرة للمذكرات، أن «اهتمام تشايكوفيسكي بالفلسفة تجلّى في نقده لمبادئ «شبنهور» ولآراء «تولستوي» الفلسفية، والاهتمام الذي أبداه بأعمال فلاديمير سولوفيوف وتشيتشيرين، وأخيراً في سنوات حياته الأخيرة لأسبينوزا».
جاءت موسيقى تشايكوفيسكي محايثةً للقلق الفلسفي، ومعارضةً لمبادئ شبنهور الفلسفية؛ إذ تنبعث شهب الحياة من بين مقطوعاته الموسيقية، وما عشق العالم لمعزوفته الأخّاذة والفرحة «كسارة البندق» إلا ثمرة من ثمار اعتراض تشايكوفيسكي على نتائج فلسفة شبنهور التشاؤمية التي تضرب عن الفرح وإرادة الحياة والانغماس في لذائذها. «نيتشه» هو الآخر عازف مميز، كان ثنائياً هو و«فاغنر» قبل أن «تتأنّث» موسيقى الأخير بفعل التأثير المسيحي، ودخول فاغنر على خطّ الاهتمام الشعبي، حينها غضب نيتشه على هذا «التأنيث» وراح يكسر بمعاول بحثه تاريخ الموسيقى الألمانية، سنعثر على هذا النقد الشرس في كتبه المتوزعة، ولكن النقد سيكون واضحاً في نقد «القيم»، التي حملتْها الموسيقى «المسيحية المؤنّثة»، ممثلةً في مقطوعات فاغنر التي أنتجها في الثلث الأخير من حياته، سنجد النقد كل النقد في كتابه «ما وراء الخير والشر - تباشير فلسفة المستقبل».
وفي الـ100 صفحة الأخيرة من الكتاب يصرخ نيتشه كعادته: «إن توخّي الحذر الشديد هو واجب على ما أظنّ عند تذوّق الموسيقى الألمانية، عليه أن يستمع بأذنيه مقدمة موسيقى أعمق وأقوى، أخبث وألغز، ربما موسيقى ما فوق ألمانية لا تخفت وتذبل وتبهت». الموسيقى ليست فكرة، أو دعوة، أو رسالة، وإنما حيلة حسّية، عمقها في اعتباطية دلالتها، وهي ليست دلالة حتى نحكّمها إلى الفهم، من هنا يكون التأثير الفلسفي على الموسيقى ليس تأثيراً في جوهر المجال وإنما بالإيحاء إلى تماسّ المنتج للموسيقى مع المنجزات الفلسفية القائمة، بقيت «الموسيقى الكلاسيكية» ضمن التهم الطبقية مع صعود الماركسية، وانتهتْ لأن تكون وجبة شعبية تعمل في المحالّ وأماكن الترفيه.
حمّلت الموسيقى خطأ الأفكار، وباتت مشجباً لانهيار النظريات الكبرى في القرون الثلاثة المشار إليها في بدء المقال. كتب «إيفانجليوس موتسوبولوس» بحثاً عن «الميتافيزقيا والموسيقى»، وهو بحثٌ بدأ من فرضية كون الموسيقى دلالة؛ إذ رأى في ختام بحثه «أن الموسيقى كبقية النشاطات الفنية، تعبّر ولكن بقوة أشد عن التساؤل الميتافيزيقي، وذلك من خلال مضاعفته على طريقتها»، وهو يستمد دلاليّة الموسيقى من أسسٍ أفلاطونية تربط الموسيقى بالكون، غير أن الموسيقى براءة مستمرة، وفطريّتها لا تكدّرها دلاء النظريات المرهقة التي تستعمل الموسيقى دينياً ونضالياً أو دلالياً. الموسيقى بقيت متمسّكة باستقلاليتها، وتأثّرها بالفضاءات الفلسفية، ليس تأثراً دلالياً وإنما هو التأثير الذي يمنح الموسيقى قدرتها على الممانعة ضد تدجينها، سواء ضمن «التأنيث المسيحي»، أو «الاتهام الشيوعي»، ولا يمكن لمطرقة النضال أن تهشّم بيت الموسيقى العتيد.
لم تكن الفنون منعزلةً عن حلقات النقاش أو صرعات النظرية أو غليان التأويل، كانت حاضرةً ومحايثةً، بل سابقةً في كثير من الأحايين، وآية ذلك أن الموسيقى ارتبطت بالتحولات البشرية، فهي تتفاعل مع المحيط وتأخذ منه وتعطيه، ذلك أن الفنون إجمالاً، والموسيقى تحديداً، لا تلبث أن تخاتل النظرية. ولو تأملنا في سير الحضارات وشرر النظريات لوجدنا أن الموسيقى إما أن تسبق التحول، وإما أن تحايثه، وإما أن تتبعه، فهي منفعلة بالتحول وفاعلة له، والأمم التي تأسست تحولاتها ضمن فضاء الموسيقى استطاعت أن تفتتح مشروعاً أبدياً لتأميم الموسيقى وجعلها لغة سائدةً بين المجتمعات، من هنا يكون العالم عبثاً من دون موسيقى أو غلطة كما يكتب «نيتشه».
يشكو الراحل الكبير فؤاد زكريا من عدم وجود موسيقى عربية بينما غرقنا بـ«الأغنية» العربية، والأغنية لا ترتبط بالفضاء الموسيقي بالمعنى الرحب، بل تتحول الأصوات إلى جيشٍ من الخدم للكلمات، من هنا صارت حتى موسيقانا شعرية، طغت الأغنية على الموسيقى في الحال العربية، والموسيقيون العرب هم بمعنًى ما جزء من حال «الشعرنة»؛ إذ يرتبطون بالألحان والكلمات غير أن نماذج التكوين الموسيقي على الطراز الأوروبي أو الروسي لم يكن سائداً عربياً، ذلك أن الفضاء الموسيقي فضاء شعري وكلاميّ، من هنا يأتي النقص في القدرة الموسيقية العربية على مستوى التأليف الرحب، ليطغى التكوين الشعري أو تحويل صراعات الموسيقى لتكون خادمةً للأشعار ومن ثمّ تخلق الأغنية.
الموسيقى شريكة في النظرية وفي التحول، وشريكة بالتاريخ، ولنضرب مثلاً بالأوبرا الإيطالية التي كتب عنها ويل ديورانت: «أياً كانت الأوبرا الإيطالية، هازلةً أو جادة، فإنها كانت قوة في التاريخ، وكما غزت روما غربي أوروبا بجيوشها، وكما غزتها كنيسة روما مرة ثانية بعقيدتها كذلك غزتها إيطاليا مرةً ثالثة بالأوبرا، فأزاحت أوبراتها الإنتاج الوطني في ألمانيا والدانمارك وإنجلترا والبرتغال وإسبانيا بل روسيا، وكان مغنوها معبودي كل عاصمة أوروبية تقريباً، واتخذ المغنون الوطنيون أسماء إيطالية لكي يحظوا بالقبول في وطنهم، وسيمضي هذا الغزو الساحر ما بقي للحروف اللينة التفوق في الغناء على الحروف الساكنة».
كانت الأوبرا الإيطالية قوة تحول ومؤثراً تاريخياً على المحيط الذي وصلت إليه.
رأى أدورنو أن «لا إنسانية الفن يجب أن تنتصر على لا إنسانية العالم من أجل الإنساني، إن الأعمال الفنية تسعى إلى حل الألغاز التي يصنعها العالم لابتلاع الإنسان. تقف الفنون كلها ضد الميثولوجيا». وانتقد الفلاسفة تحولات الموسيقي أدورنو في عصره، حيث حصرت الموسيقى بالجسد ووصف هذا بأنه قبح، ولا تقدم مثل هذه الموسيقى أيّ معنًى، بينما الفلاسفة الألمان ارتبطت مشاريعهم الفلسفية بالأنماط الموسيقية مثل التأثير الذي سببته موسيقى فاغنر على معاصريه نقداً أو إلهاماً أو تحويلاً، كذلك الموسيقى الأوروبية أثرت على مجمل الفلسفة الأوروبية، كما هي حال الفرنسي باسكال الذي تأثر كثيراً بالموسيقى الكلاسيكية كما يعبر في «الخواطر».
بمعنى آخر، فإن الموسيقى شريكة لأي حضارة، حتى الأمم التي شقّت طرق التقدم من دون إرثٍ موسيقي إنما استمدت تجارب التقدم من أمم لديها موسيقى، وعلى حد تعبير جون باررو في عبارته الشهيرة: «لقد وجدت حضارات بلا رياضيات، حضارات بلا رسم، حضارات حرمت من العجلة أو الكتابة، لكن لم توجد حضارة بلا موسيقى».
غير أن بعض العباقرة من رياضيين وفلاسفة وفيزيائيين لم يكونوا من عشاق الموسيقى، هيدغر لم يكن مهووساً بالموسيقى، لقد استبدل موسيقى الصوت واستعاض عنها بموسيقى الصمت، من هنا يكون العالم كله مركّباً من النوتات، وكل شبرٍ فيه إنما يحكي إيقاعه، وهذا سرّ ارتباط النوتات بكل محيطنا الذي نعيشه.
كتب نيتشه: «الموسيقيّ المفضّل عندي هو من يعرف آلام السعادة الحقة فقط وليس غيرها من آلام، ولم يوجد موسيقيّ كهذا حتى الآن».