سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

عقدة من ورق

ثمة علاقة بين شحّ كميات الورق عالمياً مع غلاء أسعارها، وتصاعد وتيرة النشر الإلكتروني على أنواعه. فهدف الصناعات في مأزقها الوجودي، هو تخفيض تكلفة الإنتاج ورفع هامش الربح، من مصانع السيارات إلى الملابس والأدوات المنزلية، وصولاً إلى دور الكتب التي ليست استثناء في شيء.
هذه النقلة، وإن بدت أنها تسير في سياقها الطبيعي، لن تحدث من دون عقبات، والكثير من الفوضى والضياع. تعتبر دور النشر العربية أنها بعد كل كتاب تنشره، تخوض سباقاً مع الزمن ضد القرصان، محاولة أن تبيع ما يعوض تكاليفها على الأقل، من العنوان الواحد، قبل أن يقدمه المقرصنون بالمجان على الشبكة، لمن يشتهي.
الحلّ لن تأتي به «أمازون» ولا «غوغل»، ولن يكون بالاستمرار في ماراثون عبثي مع اللصوص الافتراضيين، بل بالاجتهاد في جعل النسخة الإلكترونية لأي كتاب جديد، متاحة بالتزامن مع الصدور الورقي، بنوعية تنافسية، وأسعار ضئيلة تغري بالشراء.
إذ يحصل أن تشتري كتاباً إلكترونياً عربياً، وتدفع ثمنه، لتكتشف أن قراءته مستحيلة وتقليب صفحاته تُنفرك من الاستمرار في المتابعة.
وبينما نغرق في مناقشة قضايا الكتب الورقية وقرصنتها، يذهب النشر الإلكتروني العالمي بعيداً في الاجتهاد، وتلهث المحاكم، من دون أن تستطيع التقاط أنفاسها، للحاق به وحل تعقيدات الأوضاع المستجدة.
مَن صاحب حقوق الملكية الفكرية والمادية حين يكون نص الكتاب أو الفيلم قد تم إنجازه بمعونة برامج الذكاء الصناعي؟ قد يبدو السؤال سوريالياً، لكن سنرى عاجلاً، أنفسنا نستعين ببرامج جاهزة لنركّب أعمالنا، ولا نعرف ما نسبة حقوق المؤلف في هذه الحالة؟ الوضع أصعب مع كتب القصص المصورة التي قد تستعين بمخزون الصور الموجود على الإنترنت، وتكتفي بإجراء بعض التعديلات عليها لتمويهها واستعمالها. دعاوى كثيرة في المحاكم الأميركية، لحل هذه النزاعات؛ إذ حين يتدخل الذكاء الصناعي في مرحلة من الإبداع الفني، نسأل حينها: مَن أصحاب الحقوق: هل هم مبتكرو البيانات التي يستخدمها الذكاء الصناعي أم مصمم العمل النهائي؟ هل يجب أن نتوقف عند جهد مطور الخوارزميات، ونقدّر دوره، أم أن إفادتنا المجانية من جهد المطورين ليست استغلالاً؟ وجهات النظر متعددة، والقضاء الأوروبي، كما الأميركي، لا يزال يجتهد للعثور على إجابات شافية وعادلة.
فكم بات من السهل عمل كتاب للطبخ من دون أن تدخل مرة واحدة إلى المطبخ، أو تنشر مؤلفاً عن بلد لم تره في حياتك، وتوفرت لك حوله مادة إلكترونية وزيارات حية على يوتيوب، هذا عدا الرحالة الجوالين، الذين ينقلون أدق التفاصيل عن الأماكن التي يزورونها على وسائل التواصل.
كانت المسألة أسهل، قبل أن تزدحم المعلومات على الشبكة مسموعة ومرئية ومقروءة، وتصبح ترجمة المحتوى من أي لغة ممكنة بكبسة زر. قضية حقوق الحكومات على الكتب الإلكترونية حلّت عام 2015 من قِبل الاتحاد الأوروبي، بمجرد اعتماد ضريبة 20 في المائة على النسخة المبيعة. لكن حقوق الكاتب بقيت أقل وضوحاً. فكم نسخة يحق للناشر بيعها قبل العودة ثانية إلى المؤلف، على اعتبارها طبعة أولى. ومع ظهور سوق الكتب الإلكترونية المستعملة على الشبكة، كيف يمكن تقاسم حقوقها، ومع مَن؟
أثارت مكتبة «أرشيف الإنترنت» التي تأسست في سان فرانسيسكو، جملة من الإشكاليات، وأثارت نزاعات متعددة ومتشابكة. أخذت هذه المنظمة على عاتقها جمع نسخ مختارة من صفحات الإنترنت منذ ظهورها عام 1996، ووضعها في خدمة القارئ، الذي يتعرض لاستغفال شديد بسبب إخفاء المعلومات عنه، بطرق مواربة. المنصة تجمع برمجيات وكتباً وأفلاماً وتسجيلات صوتية ونصوصاً مكتوبة، ووثائق حكومية، كثير منها بات محجوباً أو مطوياً خلف السحب. ومع أن المنظمة عضو في رابطة المكتبات الأميركية ومعترف بها رسمياً من قبل الدولة، فإن نشاطها يخضع للشكاوى والدعاوى المستمرة، لأن المعلومات على المواقع، حتى المحترمة منها، قد تنشر لرفع العتب، ويتم تصعيب الوصول إليها، بجعلها مخفية، وليست في متناول الناس.
«مكتبة الديمقراطية» التي افتتحت على الشبكة الشهر الماضي، هي استكمال لمشروع «أرشيف الإنترنت»، نعثر في المكتبة على منشورات حكومية من جميع أنحاء العالم متاحة للباحثين والمواطنين من كل بلد، رغبة في تعزيز حق المواطنين في الوصول إلى المعلومات.
لكن لا الترخيص الرسمي ولا انخراط المنصة في العمل الوثيق مع الناشرين الأميركيين جنّبها المتاعب. دور نشر كبيرة هي اليوم في نزاع مع المنصة بحجة أنها تعير الكتب إلكترونياً بالمجان، وتتيحها للقراء، بلا إذن منهم.
«أرشيف الإنترنت» يحاول الترويج لما يسميه «الإعارة الإلكترونية»، متبعاً نظام المكتبات الكلاسيكية الورقية نفسه، أي أنه يعير نسخاً محدودة من الكتاب، لأشخاص معلومين، على أن يكون المؤلَّف صادراً قبل خمس سنوات. فلماذا يستشرس الناشرون ضد المنصة ونشاطاتها المتشعبة؟
فإضافة إلى دور النشر الشاكية والغاضبة، رفعت الجمعية الأميركية للناشرين ورابطة الناشرين، ومنظمات أرباب العمل الأميركية والبريطانية، الصوت ضد «أرشيف الإنترنت»، ومع هؤلاء يوجد مؤلفون وجمعيات لكتّاب، بينما دافعت قلة من الكتّاب عن المنصة واعتبروا الهجوم على مديري الأرشيف تنمراً وظلماً.
كل هذا الاستشراس يصعب تفسيره منطقياً. المرجح، أن بعض المشتغلين بالمهن الثقافية، يشعرون بأن تغيير عاداتهم، أشبه بعملية هزّ عروشهم وإسقاطهم من عليائهم، وهي أوهام ستنقلب إلى وقائع إن لم يستدرك المتعصبون للورق عمق المتغيرات وقوتها الجارفة.

\