جمال زقوت
TT

منظمة «التحرير» بين التمزيق والتفكيك!

«باي باي PLO»... هذا ما كان قد أعلنه بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق في عهد إدارة الرئيس كارتر عام 1979، وكررها مناحم بيغن بعد صمود منظمة «التحرير» في بيروت خلال الحرب الإسرائيلية على الوجود الفلسطيني السياسي والمسلح في لبنان عام 1982، التي رغم أنها أفضت إلى خروج منظمة «التحرير» وقواعد الثورة الفلسطينية من لبنان، فقد ظلت قادرة على رفض الشروط الأميركية للالتحاق بما يسمى قطار التسوية الأميركية آنذاك. ونذكر كيف أجاب الزعيم الفلسطيني أبو عمّار حينها عندما سأله أحد الصحافيين: «إلى أين يا أبو عمّار؟»، فأجابه عرفات: «إلى فلسطين».
كان لهذا الجواب وتلك القوة أثمانها التي لا بد أن تُدفع من خلال محاولات احتواء منظمة «التحرير»، التي كان من المستحيل النجاح فيها دون العمل على تمزيقها وإضعافها، تمهيداً لإخضاعها. ورغم صوابية المطالب التي رفعها تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة «فتح» في حينه، فإنها سرعان ما انزلقت نحو انشقاق دموي تورط فيه عدد من الأنظمة العربية، وقد تُوِّجَت بمحاولات المسّ بشرعية المنظمة ومكانتها، إلى أن أثمر الحوار الشاق بين التحالف الديمقراطي وحركة «فتح»، إنجاز اتفاق «عدن - الجزائر»، وانعقاد المجلس الوطني في الجزائر أبريل (نيسان) 1987، وهي الخطوة التي مهَّدت لاستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى ديسمبر (كانون الأول) 1987.
مناسبة هذا السرد العاجل هو ما آلت إليه أوضاع منظمة «التحرير» الفلسطينية من حالة غير مسبوقة من الوهن والتفكك، وحرص المتنفذين فيها على إبقاء حالة العجز، واقتصار دورها على ختم التمثيل الذي لم يعد له أثر جديّ في الواقع السياسي؛ لأسباب مختلفة، أهمها فشل مراهنة المنظمة بكل رصيدها في مسار تسوية «أوسلو» من دون أن تحقق سوى اتساع شرذمة واقع المنظمة، وتهميش مكانتها خلف السلطة التي بدأت هي الأخرى بالتأكل، خاصة بعد انقلاب حركة «حماس» عام 2007.
فشل مسيرة «أوسلو» كمرحلة انتقالية في إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، من دون أن تجتهد قوى منظمة «التحرير» في مراجعة هذا المسار، شكّل - ولا يزال يشكّل - البنية التحتية لحالة الانقسام التي تتعمق وتفتح أبواب جهنم لمزيد من تفكيك المنظمة، التي تحولت إلى مجرد أداة في يد الرئاسة الفلسطينية للمضي في عملية هندسة الحالة الفلسطينية بعيداً عن الإرادة الشعبية، وبديلاً عن التوافق الوطني مع قوى سياسية واجتماعية ناهضة في الحياة السياسية، على رؤية خارج مسار «أوسلو»، تعيد لمنظمة «التحرير» طابعها الائتلافي التعددي العريض كجبهة وطنية لقيادة مرحلة التحرر الوطني.
هذا الواقع الهشّ والمتأكل ينعش ويعيد إحياء محاولات خلق البدائل والسيطرة على المنظمة، وهي الاستراتيجية التي لم تختفِ يوماً من أجندة حركة «حماس»، أو المضي بتفكيكها وشطبها كما سعت إسرائيل طوال الحقبة الماضية.
السؤال الجوهري الذي يواجه الوطنيين الفلسطينيين، في ظل إطاحة التعددية الفتحاوية، واختفاء ما يُعرف بالقوى الديمقراطية، واصطفاف معظم مكوناتها على ضفتي الانقسام، هو: كيف يمكن بناء تيار وطني ديمقراطي مستقل يساهم في إنقاذ القضية الوطنية؟ لأن أي محاولة لا تنأى بنفسها عن حالة الانقسام وتعيد تركيز مهمتها في بناء كتلة شعبية تاريخية، تنطوي على خطر الانزلاق نحو مزيد من تمزيق «الحالة المفكّكة والمتأكلة للمنظمة»، وليس إصلاحها، أو استعادة وحدتها، أو حتى إعادة بنائها.
وحتى لا تتحول النيات الطيبة لإحياء منظمة «التحرير»، فالطريق إلى جهنم طالما كان مفروشاً بالورود. حتى لو زُيِّن بشعارات دمقرطة المنظمة، لمجرد أداة جديدة للانقسام والاحتراب على «شرعية متأكلة»؛ فإن الضامن الحقيقي لهذه العملية التاريخية يستدعي بناء تيار وطني ديمقراطي عريض مفتوح لكل الوطنيين الذين يؤمنون بالتعددية السياسية والفكرية، في مواجهة سياسات الهيمنة واحتكار السلطة والتفرد بالقرار الوطني السياسي والكفاحي، ويسعون لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة في مواجهة الاحتلال.
إن بناء الكتلة الشعبية الضاغطة لوقف سياسة تفكيك المنظمة، لا يمكن أن يُكتب له النجاح بالانحياز لأي من طرفي المشهد الانقسامي، بل بتوحيد جهود مكونات تلك الكتلة الشعبية بعيداً عن أمراض الفصائلية التي أجهضت محاولات بناء تجمع ديمقراطي، وقوّضت جهد الوطنيين الديمقراطيين المستقلين لبناء تيار وطني ديمقراطي مستقل؛ إذ أُلغيت في اللحظة الأخيرة الدعوة للمؤتمر التأسيسي للتيار الديمقراطي المستقل.
بقاء حال منظمة «التحرير» والسلطة على ما هي عليه من تفكك وتأكل حاضنتها الاجتماعية، يحتاج لمعالجة دقيقة وهادئة، وليس القبضة الأمنية لمنع وقمع الاجتهادات والمبادرات، ولا بقفزات في فراغ المناخ الانقسامي، ولعل الخطوة الأولى التي تشكّل اتجاه الضربة الرئيسية لإعادة بناء منظمة «التحرير» على أسس ديمقراطية، تبدأ بالضغط المتواصل من قبل المتضررين الحقيقيين من الانقسام ونتائجه الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، وخاصة الشباب والنساء والفئات المهمشة الأخرى، للاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وليس التواطؤ على شطب هذه الخطوة المفصلية، كما حدث في حوار الجزائر الأخير، بحيث تتركز الأولوية العليا لهذه الحكومة في توفير كل سبل الصمود الشعبي والوطني في مواجهة مخططات حكومة اليمين الفاشي، والتأسيس لبيئة ومناخات سياسية وأمنية داخلية تمهد لإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية، وتفتح الطريق نحو انتخاب - والتوافق حيث لا يمكن إجراؤها - مجلس وطني جديد، لإعادة بناء المنظمة والوحدة الوطنية الشاملة في إطارها، وبما يشمل كل تجمعات الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، على أساس التمسك المطلق بحق تقرير المصير وبقواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وتركيز الجهد الوطني العام في إعادة بناء الهُوية والمؤسسة الوطنية الجامعة، في مواجهة استراتيجية التصفية والطرد والتهجير الإسرائيلية.