د. ياسر عبد العزيز
TT

الضغوط على الإعلام تتصاعد... والعواقب وخيمة

كان الكاتب الأميركي الساخر مارك توين (1835 - 1910) هو من قال: «لقد مَنّ الله علينا بثلاث في هذا البلد: حرية التعبير، وحرية التفكير، وعدم القدرة على تطبيق أي منهما»؛ وقد ظلت هذه المقولة تتردد على مدى أكثر من قرن من الزمن كلما ثار الحديث عن العلاقة الملتبسة والشائكة بين حرية الرأي، وضرورات الضبط أو التنظيم في أي دولة من الدول.
لم يكن مارك توين يعيش في إحدى دول العالم الثالث، ومع ذلك فقد قاده حسه الساخر ونزعته المتمردة إلى توجيه سهام النقد الحادة إلى حالة حرية الرأي والتفكير وتداول المعلومات في بلاده، التي وُصفت على مدى عقود طويلة بأنها إحدى «منارات الحرية ومعاقل الديمقراطية».
يتحدث مارك توين عن حالة حريات بائسة في الدولة التي تجعل من «تمثال الحرية» أحد رموزها وأيقوناتها البارزة، والتي يحفل دستورها بنصوص وتعديلات تنتصر لحرية الفكر والتعبير والإبداع، وتُعد هذه القيم عوامل جوهرية لاستدامة نموها ورخائها وقدرتها على «قيادة العالم».
سيرى بعض النقاد أن مارك توين بالغ في مخاوفه وتوقعاته عن الحالة المعلوماتية والفكرية في بلاده، لكن وقائع كثيرة ستأتي على مر العقود لتوضح أن بعضاً مما طرحه من شكوك وانتقادات يحظى بوجاهة.
وكغيرها من الدول في العالم المتقدم، قدمت الولايات المتحدة سجلاً متبايناً إزاء حالة حرية التعبير والتفكير، وفي هذا السجل ظهرت الإشراقات في أحيان كثيرة، وقد حدث ذلك عادة بمواكبة أيام الرخاء، وفي سنوات السلم الأهلي والدولي، وكلما تباعدت الضغوط وتقلصت احتمالات الخطر.
لكن الولايات المتحدة عرفت أيضاً، على مدى عمرها القصير نسبياً في أعمار الدول، ثقوباً سوداء في سجلها الخاص بالحقوق والحريات، وقد تواكب ذلك مع أحداث جسام وتحديات خطيرة؛ مثلما حدث في مطلع القرن الحالي، حين ضربت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) تلك الصيغة بعنف، وأنتجت قدراً كبيراً من التخبط، الذي قاد إلى مجموعة من القوانين المُقيدة والمبالغة في التعسف والقمع.
لا يقتصر هذا التباين على سجل الحريات في الولايات المتحدة وحدها، لكنه عبر المحيط كذلك إلى دول تتمتع بديمقراطيات عريقة ومشغولة بعناية على مدى قرون، ومن ذلك أن دولاً أوروبية عُرفت طويلاً كمصدر إلهام لحرية الرأي والتعبير راحت تسن قوانين وتُرسي سياسات مقيدة لحرية الرأي والتعبير.
في ألمانيا، اضطرت الحكومات المتعاقبة إلى اتخاذ إجراءات قاسية للجم الأصوات النازية، وفرضت قيوداً - ظلت موضع انتقاد دائم- على الممارسات التي تُصنفها بوصفها «معادية للسامية»، وعندما ضربت جائحة «كوفيد – 19» العالم، وتضررت ألمانيا ضرراً بالغاً منها، وجدت أنه من المناسب أن تفرض قيوداً على البيئة المعلوماتية والإعلامية للجم المخاطر الناجمة عن استخدام المعلومات المُضللة.
لم تكن فرنسا بعيدة عن هذه التحديات، وبموازاة المخاطر التي تعرضت لها بسبب النزعات الإرهابية، قررت سن قوانين تجرم تداول المعلومات المضللة التي يمكن أن تزيد من تداعيات الإرهاب أو تعرض سلامة المقيمين والدولة للخطر.
تمتلك الدولة الحق في سن القوانين الملائمة لتفعيل سيادتها على مجالها الاتصالي، بما يحافظ على السلم الأهلي، والأمن، وحقوق المقيمين في نطاق سلطتها، ومصالحها العليا، لكن هذا الحق لا يجب أن يجور على حقوق أخرى أصيلة تتعلق بحرية الرأي والتعبير والتفكير والخصوصية.
من دون حرية رأي وتعبير يتحول الجمهور إلى «دابة بكماء تُقاد إلى مسلخ»، كما سبق أن قال جورج واشنطن، وستكون قدرة الدولة على الموازنة بين مقتضيات السلامة العامة وهذه الحقوق مناط اعتبار وتقدير. لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع عن معركة جديدة تنشأ عن تصادم الإرادات وتباين الرؤى إزاء قدرة الدولة على تحقيق هذا التوازن، وهو أمر يشمل عديد الدول؛ سواء كانت تُصنف متقدمة أو نامية، وديمقراطية أو شمولية.
وقبل أيام اندلعت أزمة جديدة في تركيا، حينما أصدرت الحكومة قانوناً بشأن «مكافحة التضليل الإعلامي» شمل قيوداً على الصحافة ووسائل «التواصل الاجتماعي»، وتضمن عقوبة تصل إلى السجن لثلاث سنوات في حق من ينشر «معلومات كاذبة» تمس أمن البلاد والنظام العام. لقد أدت التطورات العالمية الحادة والخطيرة إلى تعزيز الضغوط على عديد الدول، وبموازاة تلك الضغوط والمخاطر ستعمد الحكومات إلى فرض المزيد من القيود على الإعلام وتداول المعلومات، وستكون ذرائعها في ذلك مُستمدة من شيوع التضليل والاستخدام المُسيء للبيئة الاتصالية، وهو أمر سيؤدي إلى عواقب وخيمة، إن لم يتسم بقدر مناسب من التوازن والعدالة.