نديم قطيش
إعلامي لبناني
TT

ماذا تريد واشنطن من نفط «أوبك بلس»؟

بعيداً ذهب البيت الأبيض في رد الفعل على قرار «أوبك بلس» خفض إنتاج النفط بواقع مليوني برميل يومياً. وُضع القرار في سياق عدوان سعودي على أميركا، يستهدف التأثير على مسار الانتخابات النصفية من باب رفع تكلفة الوقود على الناخب الأميركي وإثارة غضبه على الديمقراطيين. ثمة أصوات قفزت إلى استنتاجات عجيبة مفادها أن الرياض اختارت التحالف مع موسكو في المعركة الدائرة بين الأخيرة وعموم عواصم الغرب على خلفية النزاع الروسي - الأوكراني.
وحفلت الأيام الماضية بتعليقات في كبريات الصحف ذات التوجه الليبرالي، وفي تعليقات أعضاء في الكونغرس الأميركي تتفنن في تخيل ردود الفعل العقابية الواجب الإقدام عليها في مواجهة السعودية، حتى يخال للمرء أن قرار «أوبك بلس» هو قرار سيادي سعودي منفرد وأن المستهدف في القرار هو أميركا حصراً دون العالمين!
ولئن كان معلوماً أن النفط سلعة استراتيجية أممية، يقفز إلى الذهن سؤال بديهي: لماذا لم تعتبر كل من الهند والصين أن قرار خفض الإنتاج النفطي لوقف المسار التنازلي للأسعار، موجه ضدهما، علماً بأنهما دولتان تعانيان اقتصادياً أكثر بكثير من معاناة الاقتصاد الأميركي، وهما بالتالي أكثر تأثراً بارتفاع أسعار النفط؟ هل يخفى أن الهند والصين تتنافسان على شراء كل قطرة نفط ممكنة بأسعار مخفضة، لا سيما النفط الروسي ونظيره الإيراني، بغية التوفير وخفض الضغط على اقتصاداتهما؟
ولماذا اختارت ألمانيا، الدولة الأوروبية الأكثر اعتماداً على إمدادات الطاقة الروسية، خيار البحث في تفاهمات وحلول مع دول الخليج، بدل سلوك التصعيد اللفظي والخطابات الشعبوية ضد المملكة؟
ثم أيهما أكثر أذى للاقتصاد العالمي، المساهمة المباشرة الإيرانية في إطالة أمد النزاع الروسي - الأوكراني، أو على الأقل النية الجرمية في هذا الاتجاه التي يعبر عنها إرسال إيران إلى موسكو مسيرات لقصف المدن الأوكرانية، أم قرار «أوبك بلس»، الذي أنصفته أصوات عاقلة داخل الإدارة، كعاموس هوكشتاين، الذي صنف القرار كقرار خاطئ من وجهة نظره، لكنه نزع عنه صفات العدوانية التي صُبغ بها بشكل متسرع وهزيل؟
لا تحتاج هذه الأسئلة لتقديم إجابات عنها، فهي إجابات نفسها، متى رفعت غشاوة الخطابات الشعبوية الصادرة من واشنطن.
إن الاستنتاج السطحي والمتسرع بأن المملكة العربية السعودية اختارت الاصطفاف مع روسيا في النزاع الروسي - الأوكراني، لا يمكن أن يكون أكثر انفصالاً عن الواقع. هل المقصود مثلاً أن دولة الإمارات العربية المتحدة صاحبة الصوت العربي الوحيد، الممثل للمصلحة العربية المشتركة في مجلس الأمن، وصوتت لصالح إدانة قرار موسكو ضم 4 أقاليم أوكرانية، قد فعلت ذلك ضد السعودية أيضاً؟ لم يصدر من الرياض موقف يعاكس وجهة التصويت الإماراتي في مجلس الأمن، ما يعني أن موقف الإمارات يعبر لا عن أبوظبي وحدها بل عن مستوى غير بسيط من التفاهم العربي المشترك على المصلحة في هذا الموقف حتى إن سقط مشروع القرار بالفيتو الروسي. فكيف تكون السعودية متحالفة مع موسكو نفطياً لدعم مجهودها الحربي وتكون متعارضة معها فيما يخص نتائج الحرب نفسها؟
بعد الهدوء، تحتاج واشنطن إلى أن تسأل نفسها، لماذا انخفضت الأسعار منذ 30 أغسطس (آب) حتى اليوم بالشكل الذي انخفضت به، علماً بأن المملكة العربية السعودية لم تقدم على أي إجراءات تقنية أو سياسية جدية تفسر تراجع الأسعار بالشكل الذي شاهدناه؟
حقيقة الأمر أننا بإزاء هبوط في الأسعار يعكس ديناميات سوق النفط التي تتأثر بعدد من العوامل المتحركة والتي لا تكف عن الفوران، كمناخات التوتر والقلق التي تنتجها الحرب الأوكرانية - الروسية، وتداعيات جائحة «كورونا» المستمرة لا سيما في الصين، التي لا تزال تشهد إغلاقات ضخمة تؤثر على مستويات استهلاك النفط وتضعف الطلب عليه. زد على ذلك رفع أسعار الفائدة في البنوك المركزية حول العالم واحتمالات الركود التي تلوح في أفق الاقتصادين الأوروبي والعالمي.
لماذا نقبل المقاربات العلمية التقنية التي تعتمد ديناميات السوق لتفسير انخفاض الأسعار من 30 أغسطس حتى اليوم، ولا نقبل المقاربات نفسها لفهم قرار «أوبك بلس»؟
لقد وصل الأمر ببعض ردود الفعل على قرار «أوبك بلس»، إلى حد التلويح بدعم أحد الاقتراحات التشريعية المزمنة، المعروف باسم «NOPEC»، وفحواه تحميل كارتل «أوبك بلس» المسؤولية القانونية، في حال ثبوت تواطؤ بين الدول الأعضاء للتلاعب في الأسعار!
يكفي التداول بمقترح كهذا لتسميم مناخات سوق الطاقة وإثارة ذعرها ورفع أسعار منتجاتها، أكثر بكثير مما يمكن أن يفعله أي قرار تتخذه «أوبك بلس».
مجدداً، النفط سلعة استراتيجية، وللقرارات بشأنها تأثيرات تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة بل إلى مسائل تتعلق بالأمن القومي.
بيد أن حقيقة الأمر، التي صرح بها عدد من المسؤولين والمعلقين الأميركيين، أن من يطالب بتسييس أسعار النفط هو واشنطن وليس العكس. تريد إدارة بايدن من «أوبك بلس» أن تتخذ المواقف الرامية إلى معاقبة روسيا، عبر خفض عائدات النفط وحرمانها من عائدات تستخدمها لتمويل حربها ضد أوكرانيا؛ أي أنها تطلب من دول مثل السعودية والإمارات وغيرهما، أن تدفع فاتورة معاقبة نظام فلاديمير بوتين، من دون أن تأخذ هي في عين الاعتبار مصالح هذه الدول وهواجسها الأمنية في الملفات التي تعنيها. قرار «أوبك بلس» هو قرار تقني ولو كانت له تأثيرات سياسية. أما ما تريده واشنطن فهو قرار نفطي سياسي صرف، يسعى لعسكرة الطاقة في مواجهة العسكرة التي بدأها نظام بوتين ضد أوروبا عبر وقف تصدير الغاز. لنفترض أن ذلك ممكن من دون تبعات اقتصادية وسياسية وأمنية كبرى على الدول المعنية بكلفة القرار، فلماذا قد تقدم هذه الدول على توفير هذه الخدمة لواشنطن؟
هل استجابت الإدارة الأميركية لمصالح السعودية في ملف اليمن وتصنيف ميليشيا الحوثي كمنظمة إرهابية؟ هل عولجت هواجس السعودية وحلفائها العرب بشأن الاتفاق النووي الإيراني الذي لا تزال إدارة بايدن تسعى للوصول إليه؟ هل تخلت الإدارة الأميركية عن مواقفها السلبية المتعلقة بصفقات التسلح؟