داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

بضاعة رديئة: فوضى وميليشيات وفساد

معها كل الحق الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لدى العراق، جينين بلاسخارت، حين تقول في الإحاطة التي قدمتها أمام مجلس الأمن يوم 4 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي: «إن المرء ليس بحاجة إلى كرة بلورية ليتنبأ بما يمكن أن يؤدي إليه الوضع الخطير الذي يمر فيه العراق، مع اندلاع المظاهرات المعارضة والمضادة إلى حد الفوضى العارمة».
وبلاسخارت هولندية الجنسية ليست دبلوماسية عادية؛ فقد كانت وزيرة الدفاع في بلادها وعضواً في مجلس النواب عن حزب «الشعب من أجل الحرية والديمقراطية» وعضواً في البرلمان الأوروبي لتحالف الليبراليين والديمقراطيين في أوروبا. وهي بدأت مهمتها في العراق منذ عام 2018، وميزتها أنها استطاعت أن تنفرد بين الدبلوماسيين العرب والأجانب بدخول المكاتب الخاصة لرؤساء الميليشيات المسلحة الموالية لإيران والتابعة لـ«فيلق القدس»، الذي كان يقوده قاسم سليماني قبل مقتله من قبل الأميركيين في بداية عام 2020 على أبواب مطار بغداد الدولي قادماً من دمشق. بينما لا يعرف معظم الوزراء العراقيين عناوين تلك الميليشيات أو أرقام هواتفها، وحتى لو عرفوها، فإنهم لا يتجاسرون على الذهاب إليها. بل إن إحدى الميليشيات منعت رئيس الوزراء العراقي الأسبق، عادل عبد المهدي، من دخول أحد معسكراتها، جنوب بغداد، حيث تعتقل ألوف المدنيين لأسباب طائفية، بعد استيلائها على بساتينهم ومزارعهم وأحواض أسماكهم وبيوتهم، وإعدام مَن تشاء منهم بلا محاكمات.
بوضوح قالت الممثلة الأممية إن الوضع «خطير جداً»، والبلد «على شفا الفوضى العارمة»، وأخفقت الأطراف الفاعلة في وضع المصلحة الوطنية في المقام الأول. لقد تركوا البلد في «مأزق طويل الأمد»، ما أدى إلى «تصاعد الغضب الشعبي».
لم تتردد بلاسخارت في استخدام توصيفات كارثية للأوضاع الحالية، مثل: «مأساة واختطاف وتهديد وترهيب». وأكثر من ذلك «أن الأطراف كافة المشاركة في العملية السياسية الحالية ارتكبت أخطاء استراتيجية وأساءت التقدير وأضاعت فرصاً ثمينة لحل خلافاتها».
كل ذلك صحيح ومفهوم، ويتحمل رؤساء الأحزاب والميليشيات مسؤولياته. وليس جديداً أن يتأخر تشكيل الحكومة، لأن الكتل السياسية أمورها ليست في أيديها، وإنما خارج الحدود. ولم توضح المبعوثة الأممية هذا الأمر بصراحة وشجاعة. والفوضى ليست بسبب مظاهرات الشباب، وإنما بسبب الميليشيات الإيرانية المسلحة من الرشاشات إلى كواتم الصوت إلى الصواريخ وانتهاء بالمسيّرات الإيرانية الانتحارية. وهذه المسيّرات أو «طائرات الدرون» إيرانية الصنع اشترى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعداداً كبيرة منها، استخدمها لقصف أوكرانيا، قبل أن يضم أربعة أقاليم أوكرانية بسكانها وممتلكاتها.
الشعب العراقي لا يعنيه تشكيل الوزارة اليوم أو غداً؛ فقد تعوَّد على هذه العقدة منذ سيطرة الأحزاب الموالية لإيران، لكن مشكلة العراقيين هي في الميليشيات المسلحة التي تحمل عشرات الأسماء وترتبط بالقوات المسلحة العراقية تجهيزاً وتمويلاً ومعتقلات ومقابر جماعية. هذه الميليشيات جُزُر منفصلة داخل الدولة الفاشلة. لقد تسلَّم مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء منذ ثلاث سنوات، لكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً في مواجهة هذا الخنجر الإيراني في خاصرة النظام العراقي الحالي. ووصل الأمر إلى محاولة اغتياله في العام الماضي في مسكنه، إلا أنه قلب الورقة سريعاً، في محاولة للحفاظ على ما تبقى من أنقاض دولة اسمها: العراق.
وكل ذلك «كوم»، والفساد المستشري في البلاد «كوم آخر»؛ فالسيدة بلاسخارت تقول في كلمتها أمام مجلس الأمن إن النظام السياسي ومنظومة الحكم في بغداد يتجاهلان احتياجات الشعب العراقي، ويمثل الفساد سبباً جذرياً رئيسياً للاختلال الوظيفي والخدمي والاجتماعي في البلاد.
لقد أعربت بلاسخارت عن قلقها، ليس من التدخل الإيراني والتركي في العراق، وإنما من «التصحر» و«سلبية» الحياة السياسية في بلد تاريخه يعود إلى فجر الحضارات وما قبل مسلّة قوانين حمورابي.
في 10 فبراير (شباط) من العام الماضي، نشرتُ في هذه الصحيفة مقالاً تحت عنوان: «السيدة القادمة من هولندا» عن الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، جينين بلاسخارت، بعد أن شُوهِدت تشارك شباب «ثورة تشرين» (أكتوبر) بركوب عربة «توك توك» في ساحة التحرير، وحذرت الدبلوماسية الكبيرة من أن «عنف العصابات والميليشيات الموالية لإيران يضع العراق في مسار خطير»، وحثَّت الجيش العراقي، وليس الحكومة، على «ألا يدّخر جهداً لحماية المتظاهرين السلميين من عنف عناصر مسلحة تعمل خارج سيطرة الدولة». وقلت في المقال: «إذا استطاعت بلاسخارت حل ونزع أسلحة الميليشيات التابعة لـ(فيلق القدس) الإيراني، فيكفيها هذا سبباً لإقامة تمثال لها في قلب بغداد».
مشكلة العراق ليست الحكومات الضعيفة الموالية لإيران التي توالت على الحكم منذ عام 2006 فقط، ولا حكومة مصطفى الكاظمي الحالية التي تسعى لإمساك العصا من الوسط، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالتعاون مع بعض دول الجوار، غير تركيا وإيران؛ بل إن حكومة الكاظمي المسالمة هي «أقوى» حكومة في إصدار القرارات التي لا تُنفّذ. والأمثلة كثيرة: حصر السلاح المنفلت وتسليمه للدولة، محاكمة المندسين في مظاهرات الشباب الذين اغتالوا مئات المتظاهرين من الشباب والشابات، واعتقال المجرمين المسؤولين عن اغتيال معارضي النظام الإيراني من الباحثين والإعلاميين العراقيين الذين قدم الكاظمي تعازيه لذويهم، وتعهَّد بتقديم المجرمين إلى المحاكم من دون أن تتم محاكمة أحد.
يريد العراقيون من بلاسخارت أو بعثة من الأمم المتحدة أن تعرض على مجلس الأمن الدولي ليس مشكلة تأخُّر تأليف الحكومة لمدة عام كامل بعد إجراء الانتخابات النيابية؛ فالعراقيون لا يرون أي اختلاف بين وجود الحكومة أو غيابها. المهم والأخطر أن تعرض السيدة بلاسخارت ومعاونوها من بعثة دولية على مجلس الأمن مشكلة «الميليشيات الإرهابية» التي مزقت العراق وعاثت في البلاد فساداً واغتيالات، ورشح أحد زعمائها البارزين نفسه ليكون رئيساً لوزراء العراق!
ولعله من الأفضل أن يبحث مجلس الأمن الدولي «إشكالية» الميليشيات التي مزقت دولاً أخرى، وليس العراق فقط، مثل سوريا ولبنان واليمن والصومال وأفغانستان وغيرها؛ فهذه المشكلة العويصة القاتلة والمدمرة هي «قنبلة نووية» موقوتة يجب تفكيكها بدقة، بحيث لا تقوم لها قائمة في المستقبل، حتى لو تم إصدار عفو عام عن جميع منتسبيها. كما يجب أن تُعامَل مثل المخدرات والأوبئة وكل النشاطات الإرهابية التي نعرفها أو لا نعرفها.
الوقاية خير من العلاج سعادة السفيرة جينين بلاسخارت.