د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«دلفي»: دقة المشورة العصرية

ما زالت المشورة منذ فجر التاريخ، أصل التقدم والتخلف. فهناك من يستعذب مشورة من يشبهونه، ليصل إلى قناعاته. الخطورة تكمن في أن «حفلة التطبيل والنفاق» ستسير بالجميع نحو الهاوية. وهناك من يستشير الأمناء ممن يخالفونه الرأي لإيمانه بأن الاختلاف قوة ورحمة. فروعة تعدد الآراء أنها تأتي من زوايا متعددة لذلك الهرم الذي تختلف نظرتنا له بحسب قربنا أو بعدنا منه. فالبعيد (قليل الخبرة) يراه صغيراً، والقريب منه يراه كبيراً (فهو أخبر بالتفاصيل).
في العصر الحديث، تطورت المشورة، وصار علم الإدارة يستقي من علوم عديدة أدوات أفضل من مشورة «الشلة». من هذه الأساليب طريقة دلفي Delphi، وهي إجراءات بسيطة وعملية للتنبؤ أو الوصول إلى قرارات راجحة عبر مجموعة من المحاولات لاستقصاء آراء عينة مختارة من الخبراء في مجالاتهم، شريطة ألا يعرف أحد منهم اسم الآخر. وبعد جمع آراء الجولة الأولى تعرض عليهم خلاصة النتائج من دون ذكر أسماء، وهكذا حتى تنتهي جميع الجولات إلى آراء سديدة نابعة من مختصين وبعيدة عن الشللية أو «مَن قال ماذا حتى أعارضه».
وقوة هذه الاستشارة أنها «مفلترة» تماماً كما يمرّ الماء في مراحل عديدة لفلترته فيصبح ماءً زلالاً سائغاً للشاربين. كما أن خلاصة الرأي الجمعي عندما يعود إليك بعد جولات يمنحك كمتخصص متسعاً من الوقت للتفكير أو تغيير بعض القناعات على اعتباره أنه جاء من أشخاص متمكنين. ويفسد ذلك كله سوء اختيار المجموعة. وهذه الطريقة «الدلفية» تعبّر عن إجماع حقيقي عما يعبّر عن مكنونات المجموعة المستشارة. مثل استطلاع آراء مديري الإدارات في الميزانية التقديرية، أو مشروع جديد، أو كيفية التعامل مع منافسين أو خطر خارجي داهم أو مشكلة داخلية مستعصية.
ولا تحتاج استشارة دلفي إلى اجتماعات وجهاً لوجه. وقد رأينا كيف حلت البشرية مشكلة جائحة «كورونا» عن بُعد بدءاً من زعماء العالم إلى أصغر الإدارات. كما أنها ترفع الحرج عمن يراعي الاعتبارات الاجتماعية أو الإدارية، وتنزع «هالة الرأي» التي ترافق آراء «كبار المسؤولين». فيمكن رفض فكرة بغض النظر عن قائلها.
روعة دلفي أنها تستخدم ما يسمى حكمة الجماعة Wisdom of crowds؛ فالناس الذين نحسن انتقاءهم تكون قراراتهم أكثر رجاحة من عقل الفرد الواحد في حل المشكلات، واتخاذ القرارات، والابتكار، والتنبؤ.
كما أن دلفي تساعدنا على الوصول إلى تقريب مهني لوجهات النظر بعيداً عن «الحزازيات الإدارية».
‏غير أنه من المهم توزيع قائمة الأسئلة بالطريقة نفسها لجميع المشاركين لضمان انتفاء التحيز أو سوء الفهم. والتعليق يكون بناءً على الرأي الشخصي، أو الخبرة السابقة، أو المعلومات المتوافرة لدى الخبير. ويمكن إعادة الجولات لمرات عديدة حتى يحصل شبه إجماع consensus.
خلاصة الأمر، أن الفرد بطبيعته منحاز؛ ولذلك تميل الشعوب للمشورة، ومن أحدث طرقها أسلوب دلفي، شريطة حسن انتقاء أفضل الخبراء في مجالاتهم وإخفاء أسماء المشاركين رفعاً لأي حرج اجتماعي.