هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

الرقائق الإلكترونية الأميركية قيود جديدة على الصين

تُصعّد الولايات المتحدة الحرب التكنولوجية الباردة مع الصين عبر فرض عقوبات جديدة بهدف الحد من تدفق أشباه الموصلات ومعدات تصنيعها إلى بكين.
لا تتركوا الأسطورة التكنولوجية تخدعكم: نظراً لأن مجتمعات عصر المعلومات المتقدمة تعتمد على أشباه الموصلات، تسعى الولايات المتحدة إلى عرقلة الدينامية الاقتصادية الصينية والقدرة العسكرية على حد سواء. تعد سياسة واشنطن الجديدة تحذيراً لبكين حول المدى الطويل للقوة الأميركية في ظل اقتصاد معولم. وهي تعكس أيضاً اعترافاً جاداً بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تفوز بمنافستها مع الصين ببساطة من خلال الركض بشكل أسرع، بل يتعين عليها أيضاً أن تعمل على إبطاء مسيرة بكين.
ليست هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها واشنطن نفوذها على سلاسل توريد أشباه الموصلات كسلاح جيو-اقتصادي. ومنذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، سعت واشنطن إلى عرقلة شركة «هواوي تكنولوجيز» الصينية العملاقة، عبر حرمانها من أحدث الرقائق المتطورة التي تحتاج إليها للهيمنة على شبكات الاتصالات «جي 5» في العالم.
لكنها كانت حملة حرمان موجهة للغاية تهدف إلى عرقلة شركة معينة تمثل تهديداً غير عادي للأمن القومي الأميركي. أما النهج الجديد فهو أكثر اتساعاً؛ إذ يتمثل في الاحتواء التكنولوجي بكل بساطة ويسر.
سوف تستخدم إدارة الرئيس جو بايدن لائحة غامضة لكنها قوية، وهي قاعدة وزارة التجارة للمنتجات الأجنبية المباشرة، لمنع الشركات من توفير أشباه الموصلات المتقدمة للشركات الصينية ما لم تحصل على تصريح من واشنطن. كما سوف تمنع الإدارة الاستحواذ على أدوات صناعة الرقائق الأميركية المتطورة من خلال كبريات الشركات الصينية، وسوف تفرض قيوداً إضافية على عشرات الشركات الصينية الأخرى.
لم تمنع الولايات المتحدة بصفة رسمية، حتى الآن، بيع معدات تصنيع أشباه الموصلات أجنبية الصنع إلى الصين من قبل الشركات العملاقة في ذلك المجال، مثل شركة «إيه إس إم إل» الهولندية القابضة. بيد أن هذه الإجراءات هي إشارة قوية إلى أنه إذا لم تتمكن واشنطن من إقناع الحلفاء الرئيسيين، مثل هولندا، بفرض العقوبات الخاصة بهم، فقد ترغمهم على الأمر بدلاً من ذلك.
كانت السياسة الأميركية، كما أوضح مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الشهر الماضي، واضحة ومباشرة: «يتعين علينا المحافظة على أكبر قدر ممكن من الريادة».
الأمر الغريب بشأن العقوبات الجديدة أن الشركات الأميركية ليست الشركات العالمية الرائدة في تصنيع الرقائق التي تسعى واشنطن لحرمان الصين منها، فالشركات في بلدان أخرى مثل اليابان، خاصة تايوان، تملك الريادة في ذلك. لكن الشركات والتكنولوجيا الأميركية تشارك بعمق في تصميم أشباه الموصلات المتطورة، وهو ما يعطي واشنطن نفوذاً على سلسلة التوريد بالكامل.
الهيمنة العالمية للدولار والشبكة الأميركية الواسعة من الحلفاء والشركاء تسمحان لواشنطن بتدويل القيود المفروضة من جانب واحد. وعندما يتعلق الأمر بالعقوبات الاقتصادية، فهناك قوة عظمى واحدة فقط.
إذا ما افترضنا أن هذه السياسة تُفرض بقوة - قوضت وزارة التجارة الأميركية العقوبات السابقة بالموافقة على أغلبية طلبات الترخيص - فمن المرجح أن تكون هذه أنباء سيئة للغاية بالنسبة لبكين.
أشباه الموصلات المتقدمة، كما كتب زميلي في معهد «أميركان إنتربرايز» كريس ميلر، مؤخراً، تشكل أساساً للاقتصادات والجيوش الحديثة. وبرغم الاستثمارات الهائلة، فقد ناضلت الصين حتى الآن من أجل إتقان تصميم وإنتاج أصغر الرقائق المتطورة، بما في ذلك تلك المستخدمة في أجهزة الكومبيوتر الفائقة، وتطبيقات الذكاء الصناعي، والقدرات العسكرية الحاسمة مثل الأسلحة النووية والصواريخ الفائقة لسرعة الصوت.
قبل أيام فقط من سعي الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى تمديد فترة حكمه في اجتماع تاريخي للقادة الشيوعيين في الصين، تزيد الولايات المتحدة كثيراً من صعوبة اللحاق بالركب إلى حد كبير.
من هذا المنطلق، فإن القيود الجديدة تمثل نوعاً من الصحوة لفريق الرئيس بايدن، الذي أوضح ذات مرة أن بوسع أميركا التفوق على الصين بكونها أفضل نسخة من نفسها. هذا التفكير قاد جهود الإدارة لتعزيز القدرة التنافسية التكنولوجية الأميركية، من خلال الاستثمار في صناعة أشباه الموصلات المحلية والبحث العلمي والتطوير.
ولأن هذه المبادرات ضرورية، فإنها لم تتطرق إلى حقيقة أن الشركات الصينية تستخدم الوصول غير المقيد تقريباً إلى الرقائق المتقدمة ومعدات التصنيع المصنوعة في الخارج لدعم تعزيز الجيش ودولة المراقبة في بكين. وعلى هذا فقد خلصت إدارة بايدن إلى أن الحفاظ على المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة يتطلب تقييد المقدرة على الوصول الآن.
هذا انعكاس لصيغة ما بعد الحرب الباردة في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، التي سعت إلى استخدام المشاركة الاقتصادية والجاذبية لجعل بكين تتقبل الأغلال الذهبية التي يفرضها النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة. والآن تباشر الولايات المتحدة تطوير استراتيجية الاستنزاف التي تهدف إلى تقليص قدرات خصومها لخوض الصراعات الشرسة المقبلة.
المثال الأكثر تطرفاً يتعلق بروسيا؛ حيث تطبق الولايات المتحدة ضوابط تصدير قاسية وعقوبات مالية شديدة، ليس بهدف تغيير سلوك نظام حكم يتعذر إصلاحه، وإنما لاستنزاف خزائنه وإفشاله على الصعيد الجيو-سياسي.
لم تذهب الولايات المتحدة إلى حد بعيد مع الصين، الأمر الذي يعد أكثر أهمية بكثير للاقتصاد العالمي، وإلى أدنى حد للمستثمرين والشركات الأميركية. والواقع أن الأموال الأميركية مستمرة في تمويل العديد من الشركات ذات العلاقات الوثيقة مع بكين.
مع ذلك، تضع الإدارة الأميركية «السابقة الروسية» نصب عينيها، حيث كانت ضوابط التصدير الأميركية مدمرة من الناحية التكنولوجية بالنسبة لروسيا، ما أسفر عن بناء ثقة واشنطن بأنها يمكنها استخدام أدوات مماثلة لعرقلة الابتكار الصيني، وذلك قبل فترة تكون فيها التوترات مرتفعة، وسوف تحتاج الولايات المتحدة إلى جميع المزايا التي يمكنها الحصول عليها.
هذا أمر طبيعي في المنافسة بين القوى العظمى: من الصعب ضبط أي منافس على المستوى الجيو-سياسي من دون عرقلته اقتصادياً. والواقع أن الولايات المتحدة تتخذ خطوة كبيرة نحو استراتيجية الاحتواء التكنولوجي، ولن تكون الأخيرة.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»