د. ياسر عبد العزيز
TT

«المشهد الإعلامي وثورة الإعلام»

العنوان أعلاه ليس لي، لكنه عنوان إحدى جلسات «منتدى دبي للإعلام العربي»، الذي عقد دورته العشرين، على مدى يومي 4 و5 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، بحضور عدد كبير من قيادات الإعلام وصُناعه والمهتمين به في المنطقة العربية والعالم. وقد ركزت تلك الجلسة على بحث حجم تأثير وسائط «التواصل الاجتماعي» وأبعاده في المشهد الإعلامي المعاصر، خصوصاً بعدما استطاعت هذه الوسائط بلورة طبقة جديدة من «المؤثرين» والمشاهير، الذين تتزايد رقعة وجودهم وتأثيرهم باطراد، في مشهد إعلامي يتغير بشدة، ويتسم بقابلية كبيرة لاستيعاب المستجدات التكنولوجية وتسخيرها في إنتاج المحتوى وتوزيعه.
وكان المتحدث في تلك الجلسة هو الأستاذ عضوان الأحمري، رئيس تحرير «إندبندنت عربية» والصحافي والإعلامي البارز، الذي لم يخفِ قلقه من الاتساع الكبير في أدوار «الوسائط الجديدة»، وتأثيرها، في ظل عدم قدرتها على تبني آليات لضبط أدائها، خصوصاً فيما يتعلق بمحددات الدقة والتوازن واحترام القواعد المهنية.
وبدأ الأحمري حديثه بالتأكيد على أن أدوار الإعلام لم تتبدل على مر الوقت، رغم وجود متغيرات ومستجدات كثيرة ومتسارعة، وأنه يعتقد أن هناك حالياً ما يشبه تراجعاً للصحف أمام الانتشار الكبير لمنصات «التواصل الاجتماعي»، رغم عدم موثوقية محتواها، وأن ذلك سبّب ضيقاً كبيراً للعاملين بالمهنة، جراء عدم منحهم الاهتمام اللائق، خصوصاً في ظل اعتماد كثير من المؤسسات والجهات على ترويج أخبارها عبر هذه المنصات، ضماناً للحصول على انتشار واسع لها.
يشدد الأحمري على أن دور الإعلام، والصحافة تحديداً، هو النقد والتقويم وكشف الحقائق، ويُعده دوراً لم يتغير مطلقاً، كما ينتقد ميل بعض المؤسسات الإعلامية «التقليدية» إلى لعب أدوار دعائية عبر التركيز على «نقل الإنجازات فقط»، معتبراً أن الالتزام بدور «صناعة الوعي» يشكل المهمة الأساس للمؤسسة الإعلامية.
وفي تلك الجلسة المميزة، أطلق الأحمري مصطلحين مهمين: أولهما مصطلح «إدارة المحتوى»، حيث رأى أن قطاعاً كبيراً من «مؤثري» الشبكات الاجتماعية لا ينتج المحتوى الصحافي والإعلامي، لكنه يكتفي بتوزيعه من دون تقص وتثبت أو إضافة جهد إبداعي خاص.
أما المصطلح الثاني، فكان «الإعلام التكاملي»، الذي يرى أنه مآلٌ منطقيٌّ لصناعة الإعلام، التي يجب أن تجمع بين مقتضيات مهنية في إنتاج المحتوى الإعلامي من جانب، وبين توظيف التقنيات الجديدة والوسائط المستحدثة من جانب آخر، لتطوير رسالة إعلامية متكاملة، يمكن أن تحظى بثقة الجمهور، وأن تلبي حاجاته وأولوياته.
ويمكن القول إن جلسة «المشهد الإعلامي وثورة الإعلام» كانت جزءاً من مقاربة شاملة حرص «المنتدى» في دورته العشرين على طرحها وتقصي أبعادها؛ وهي المقاربة التي تُعنى ببحث مستقبل الإعلام العربي عموماً في ظل التطورات المتسارعة والتغيرات الحادة التي طرأت على بيئة الاتصال، وما رافقها من ثورة تكنولوجية ترفد القطاع بجديد كل يوم تقريباً.
وضمن تلك المقاربة، هيمنت على المناقشات التي زخرت بها الجلسات ثلاثة أفكار أساسية: أولاها تتعلق بحصة «الإعلام التقليدي» ضمن المشهد الإعلامي الإجمالي، في ظل التقدم الكبير لوسائط «التواصل الاجتماعي» خصوصاً. وثانية تلك الأفكار تختص بالتغير الحادث في طبقة «المؤثرين» والمعنيين بصناعة الوعي العمومي، بموازاة الزيادة المطردة في التعرض للوسائط الجديدة على حساب «الأقنية التقليدية»، وبروز «نخبة» جديدة من المشاهير و«المؤثرين»، الذين لا يرتبطون في عملهم بقواعد مؤسسية أو يلتزمون أدبيات مهنية في أغلب الأحيان. أما ثالثة تلك الأفكار فركزت على الاختراقات المستقبلية لصناعة الإعلام اعتماداً على التطور التكنولوجي المتسارع، وهي اختراقات تحفل بأنماط عمل جديدة، وتمنح أدواراً واسعة للآلة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بشكل ربما يخصم من دور العنصر البشري أو يشوش عليه.
والشاهد أن إدارة «المنتدى» أظهرت حرصاً على تنوع المتحدثين بما يرفد النقاش بالقدر اللازم من التوازن. وضمن هذا التوازن المنشود، مُنحت الفرص لبعض صناع المحتوى عبر الأقنية الجديدة، وبعض «المؤثرين» الذين بنوا شهرتهم وركائز تأثيرهم على نزعات الوسائط الجديدة وآلياتها المثيرة للجدل.
ويمكن القول إن أغلب المناقشات خلصت إلى ضرورة إحداث التوازن بين الوسطين الإعلاميين النافذين في عالمنا اليوم، ولكي يحدث ذلك فسيكون على عاتق الصحافيين المهنيين مهمة التمسك بالمعايير المهنية لإنتاج المحتوى، والاجتهاد في رفدها بعوامل الجاذبية، واستخدام التجليات التكنولوجية المتطورة في تعزيز إنتاجهم وتوزيعه، من دون التخلي عن مقتضيات العمل الصحافي الرشيد مهما كانت الضغوط والتحديات.