بول كروغمان
اقتصادي اميركي
TT

مراقبة العاصفة الاقتصادية القادمة

يخبرنا علماء الأرصاد الجوية أن الاحترار العالمي خلق مشاكل جديدة للمتوقعين. فلا تزداد الأعاصير قوة فحسب، بل تزداد كثافتها أيضاً بسرعة أكبر مما كانت عليه قبلاً، مما يجعل من الصعب إصدار تحذيرات مبكرة للمجتمعات المحلية القائمة في طريقها.
يذكر أن المسؤولين في مقاطعة لي بولاية فلوريدا انتظروا دليلاً قاطعاً على أن إعصار «إيان» سوف يضربهم بشدة قبل أن يأمروا بالإجلاء، وبحلول ذلك الوقت كان قد فات الأوان بالنسبة لعديد من الناس.
هل يحدث شيء مماثل مع السياسة الاقتصادية؟
كتبت أخيراً عن الضجة المتنامية من جانب خبراء الاقتصاد ورجال الأعمال، التي تشير إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي كان يحاول إبطاء الاقتصاد لمكافحة التضخم، يكافح بصعوبة بالغة. ولقد اشتد الضجيج والصخب منذ ذلك الحين. وأنا مقتنع، على نحو متزايد، أنه على الرغم من تقرير التضخم المخيب للآمال وما لا يزال يبدو عبر بعض المقاييس كمثل سوق العمل القوية، فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي يتخلف عن المنحنى.
أزعم الآن أننا بدأنا لتونا نرى الآثار المترتبة على رفع أسعار الفائدة الذي يباشره بنك الاحتياطي الفيدرالي منذ بداية العام الجاري. وناهيكم عما تقوله بيانات التضخم والوظائف الآن، هناك الكثير من الانخفاض في الضغوط التضخمية - والكثير من الضغط على الإنتاج والتوظيف - على الطريق.
إن الاقتصاد، كما يحب بعض محللي الأعمال أن يقولوا، ربما «بدأ في الانحدار». كما أصبحت المخاطر التي تفرضها سياسة الأموال الصعبة على الاستقرار المالي، والاقتصاد العالمي، تلوح في الأفق بصورة أكبر عن ذي قبل.
جزء من المشكلة أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لم يكن يفعل ما يقوم بفعله الآن - تشديد القيود المالية بشكل كبير لمكافحة التضخم - لفترة طويلة، ربما منذ أوائل الثمانينات. وربما نسي بعض المحللين، بما في ذلك أشخاص من بنك الاحتياطي الفيدرالي، أحد الدروس المهمة من السياسة النقدية في الأيام الخوالي السيئة. أي أن الأمر يستغرق قدراً كبيراً من الوقت قبل أن تترجم أسعار الفائدة الأعلى إلى تباطؤ اقتصادي أو انخفاض في معدل التضخم.
لنتأمل هنا كيف تؤثر سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي على الاقتصاد الحقيقي. إحدى القنوات الرئيسة هي الإسكان. يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى انخفاض الطلب على المساكن، مما يؤدي إلى انخفاض في البناء، ومع انخفاض الدخل المكتسب من بناء المساكن، ينخفض الطلب على السلع الأخرى، وتمتد الآثار إلى مجمل الاقتصاد في أميركا عموماً.
لكن كل هذا يستغرق بعض الوقت. وقد أدت زيادات أسعار الفائدة لدى الاحتياطي الفيدرالي إلى انخفاض حاد في طلبات الحصول على تراخيص البناء. ومع ذلك، لم تبدأ العمالة في قطاع الإنشاءات في الانخفاض حتى الآن، ويفترض ذلك لأن عديداً من العمال لا يزالون منشغلين بإنهاء المنازل التي بدأت عندما كانت الأسعار أقل. والتأثيرات الاقتصادية الأوسع نطاقاً المترتبة على ركود الإسكان المرتقب لا تزال بعيدة المنال لعدة أشهر.
القناة الرئيسة الأخرى التي يؤثر من خلالها بنك الاحتياطي الفيدرالي على الاقتصاد هي قيمة الدولار، فالدولار القوي يجعل منتجات الولايات المتحدة أقل قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية، وسوف يشكل انخفاض الصادرات وارتفاع الواردات في نهاية المطاف عائقاً اقتصادياً كبيراً. لكن الأمر يستغرق بعض الوقت للتحول إلى موردين جدد، لذلك فإن هذا التأثير لن يحدث فعلياً قبل العام المقبل.
اختصاراً للقول، يخبرنا التضخم الحالي والتوظيف، عن الماضي بشكل أساسي، ونحن بحاجة إلى النظر إلى بيانات أخرى للحصول على لمحة عن المستقبل.
مثلاً، يظهر تقرير جديد أن عروض الوظائف الشاغرة انخفضت بشدة في أغسطس (آب). ما أهمية ذلك؟ يرى عديد خبراء الاقتصاد، وخصوصاً الخبراء الذين حذروا من التضخم المستمر، أن قياس ضيق سوق العمل يتم بشكل أفضل من خلال نسبة الوظائف الشاغرة إلى البطالة، وليس من خلال معدل البطالة نفسه. لكن هذه النسبة، على الرغم من أنها لا تزال مرتفعة، فقد انخفضت بالفعل بشكل كبير، على حد تعبير «غولدمان ساكس»، فإن ما يقرب من نصف الفجوة بين الوظائف والعمال قد أُزيلت على مدى الأشهر القليلة الماضية.
ويوضح تقرير جديد آخر أن الطلب على الشقق قد توقف، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى انخفاض في نمو الإيجارات - الذي يدفع أساساً التقديرات الرسمية لتكلفة المأوى، وهو عنصر رئيس في معظم تدابير التضخم الأساسي.
أتذكرون كل مشاكل سلسلة التوريد تلك التي عطلت الاقتصاد وزادت التضخم قبل بضعة أشهر؟ حسناً، تكلفة شحن حاوية عبر المحيط الهادئ، والتي كانت 20.586 دولار في سبتمبر (أيلول) 2021، تبلغ الآن 2265 دولاراً.
أود القول إن هذه المؤشرات تنبئنا بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد فعل ما يكفي بالفعل لضمان حدوث انخفاض كبير في التضخم، ولكن من المحتمل جداً، حدوث ركود.
هل أنا متأكد تماماً من هذا؟ كلا، بالطبع لا. ولكن السياسة تشتمل دوماً على المفاضلة بين المخاطر. ويبدو أن الخطر المتمثل في أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يفعل أقل مما ينبغي عليه بات يتراجع بسرعة، في حين يتزايد الخطر المتمثل في قيامه بعمل أكثر مما ينبغي.
ويضاف إلى هذا خطر الأزمة المالية. كانت الفوضى التي أحدثتها سوق السندات البريطانية نابعة من الداخل، ولكنها مع ذلك قد تكون نذيراً بالفوضى المحتملة الناجمة عن الارتفاع السريع في أسعار الفائدة (وارتفاع الدولار، وهو ما يتسبب في إحداث ضغوط في مختلف أنحاء العالم). لا نريد أن ندع الأسواق المالية تملي سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي، ولكن هذا لا يعني أنه يجب أن يتجاهل المخاطر المالية.
مرة أخرى، لا أستطيع فرض أي يقين حول ما سيأتي. لكننا حقاً، لا نريد لبنك الاحتياطي الفيدرالي أن يحذو حذو مقاطعة لي، كما نرفض التصرف بناء على تحذيرات من عاصفة اقتصادية حتى تزول كل الشكوك. وآنذاك، سوف يكون الأوان قد فات لتفادي ما هو أسوأ.

* خدمة «نيويورك تايمز»