خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

عن الفساد سألوني

تتردد كلمة «فساد» في تشخيص حالة تردٍّ اقتصادي في دولة. كلمة قوية، موحية بصور بصرية عن عطب ينخر مأكلاً أو مشرباً أو مسكناً. قادر على التسلل إلى كل مادة في العالم. الفاصولياء باللحم تفسد، والجوافة تفسد، والماء الراكد يفسد، والحديد يفسد.
فما هذا الفساد الذي يخرّب الاقتصاد؟ هنا سيأتيك الجواب على هيئة انطباعات، لأن اللفظة ترتبط عادةً بتعبيرات أخرى تلازمها، مثل «انعدام الضمير» أو «قلة الذمة». التعريفات اللغوية السياسية ستربط الموضوع باختلاس الأموال أو الرشوة. وستقضي عمرك تعتقد أن الاقتصاد خرب، أو الشركة انهارت، بسبب انتشار هؤلاء اللصوص الفاسدين معدومي الضمير الذين حلبوا ضرع المؤسسة حتى جفّ. وبالتبعية، إنْ شئت أن تبحث عن الفاسدين فابحث عنهم وسط صفوف من اغتنى. محدودو الدخل براءة. وكلما أردت أن تبث الأمل في النفوس، بحقبة اقتصادية أفضل، ما عليك إلا الإعلان عن القبض على «فاسد» جديد على يد الجهات الرقابية. ارتباط شَرطي وهمي، لكنه أسهل من مواجهة الحقيقة.
والحقيقة الصادمة هنا أن الفساد الأكبر في الاقتصاد ليس مرتبطاً بالمجرمين المشار إليهم سابقاً. هذه جرائم يجب الاستمرار في ملاحقتها بالطبع. الفساد الأكبر يأتيك غالباً في صورة شخص حي الضمير، مخلص النية، مستقيم السلوك، لكن به -يا حرام- نقيصة واحدة؛ أنه ليس كفئاً لأداء المهمة المنوطة به. إن كان مديراً لا يتمتع بالمهارات الإدارية اللازمة، ولا يملك موهبة العين الاستثمارية، وإن كان عاملاً في بوفيه لا يجيد إنجاز الطلبات في مواقيتها، أو الحفاظ على النظافة والجودة. كيف نتهم الشخص بأنه فاسد إذن إن كنا نشهد بأنه مخلص النية مستقيم السلوك؟
هنا نلحظ الفارق بين اتهام شخص ما بأنه فاسد، وبين الحديث عن فساد. والثانية أخطر كثيراً، خصوصاً لو انشغلنا عنها بالأولى. حالة الفساد هي التي أوصلت شخصاً محدود الكفاءة فقير المهارات إلى موقعه هذا. وهي أيضاً التي أوصلت ملايين غيره.
سأضرب مثلاً يبدأ من قاع السلم، ومن طرق كلها خيّرة والشهادة لله. هذا الشخص الريفي الخدوم، لا يترك فرداً من أبناء بلده بلا وظيفة. هؤلاء الذين وظَّفهم، شكراً له، نالوا وظائفهم من دون اختبار كفاءة، نالوها فقط لأن لهم صلة بهذا الشخص الخدوم. هذا الشخص الخدوم استطاع أن يقدم تلك الهدايا لأن هناك شركات وقطاعات لا تتعامل بصرامة مع مفهوم الربح والخسارة. لديها من «الرحرحة الإدارية» ما يسمح لها بأن تدفع رواتب لوظائف لا تحتاج إليها. وبدلاً من توجيه ميزانيتها نحو بند الإنتاج أو التسويق، توجهها نحو بند الرواتب.
في أي مكان كفء في العالم، يمكن بنظرة سريعة إلى «تشارت» بياني يقارن بنود الإنفاق اكتشاف هذا وتقويمه. لا يحتاج الأمر إلى خبير ياباني في الإدارة. إنما ما الحاجة إلى مراجعة بند الرواتب إن كان المال مالاً عاماً، والشركة قطاعاً عاماً، والموظف الواحد ينال مقابلاً ضئيلاً؟ الجهات الرقابية لن تحاسب عليه ولن تصنع به قضية رأي عام. ما الحاجة إلى فعل هذا إن كان الموظفون الزائدون محميين من الاستغناء عن خدماتهم بمفاهيم غامضة مثل «قطع الرزق»؟
في الخطوة التالية تأتي قوانين العمل، لترعى هذا الموظف، فتمنحه الترقي بالأقدمية، إن لم تصل به إلى رأس الشركة، أوصلته إلى رئاسة قسم، وهي سلطة تسمح له بأن يكرر «المعروف» مع غيره.
وهكذا تتشكل «منظومة فساد» كاملة شاملة مخلصة خدومة، ليس فيها مختلس واحد، ولا معدوم ضمير واحد، لكنها جنة محدودي الكفاءة، وفيها بيئة خصبة لظهور عشرات الفاسدين الصغار، وتبادل الخدمات في هذا الفساد غير المنظور.
الآن تعالوا نقارن بين حجم الخسارة الناتجة عن أفعال هؤلاء الأتقياء محدودي الكفاءة الإدارية، وبين حجم ما تكشف عنه الجهات الرقابية فعلاً من اختلاس أو رشوة. سنكتشف الحقيقة التي نراوغها. إن فسادنا الحقيقي، هدَّار الأموال، مخرِّب الميزانية، يكمن في قيمنا الإدارية، تلك التي تعتقد أن وجود موظف زائد في مؤسسة قطاع عام ليس هدراً من المال العام، ولا تصنفها جريمة يحاسب عليها القانون، تلك التي لا تعطي قيمة «الربحية» ما تستحقه من الثناء.
وهنا نصل إلى مربط الفرس. النجاح الاقتصادي الرأسمالي لم يكن دافعه نية مخلصة، ولا أيادٍ طاهرة. كان دافعه منظومة منطقية هدفها إعلاء قيمة الربحية، وتحقيقها، بوصفها المكون الجزيئي لمادة النجاح، أي أصغر صورة لها موجودة في الطبيعة. وفهمت أن الربحية لن تكون هدفاً حقيقياً قابلاً للتحقيق إلا إن كانت الشركة الكبيرة قبل الصغيرة تدار بمال خاص، له مالك، يربح فيسعد، ويخسر فيشقى، في كل الأحوال ينال جزاء عمله في ماله.
إدارة الاقتصاد في تلك المجتمعات اجتهدت في خلق المنظومة التي تحقق هذا الهدف الجزيئي البسيط. المسؤول الإداري والسياسي والاقتصادي ليس مطلوباً منه أن يعطينا دروساً في الأخلاق، ولا الذمة، ولا الضمير. مطلوب منه صياغة منظومة منجزة، حيث، كما يقول صاحب كتاب «العادات الذرية» ببعض التصرف: «المجتمع لا يصعد إلى مستوى أهدافه، بل يهبط إلى مستوى كفاءة منظومته». لولا هذا لكانت شعارات الدول دليلاً صادقاً على حالها.
إن دققت في الدول المتعثرة اقتصادياً، ستجد أن أعلى منتقدي الفساد صوتاً أعضاء في فريق حمايته من دون أن يعلموا، لأن هذه الأصوات نفسها هي التي تدفع في اتجاه مزيد من المركزية في الإدارة، مزيد من شركات المال المشاع، المسماة القطاع العام. هذه الأصوات هي التي تدافع عن بقاء الموظفين الزائدين في مواقعهم، أو عن الإنفاق على تعليم خريجين أكثر من حاجة السوق. هذا هو الفساد الأكبر.