د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

المختار والمتناطحون على السلطة في ليبيا

في عصرنا الحالي، تحوَّل مفهوم النضال من التضحية والفداء إلى مفهوم الغنيمة والمكاسب، مما تطلب استدعاء التاريخ في ذكرى الشهيد، بعد مرور تسعين عاماً ونيف على استشهاد شيخ المجاهدين المناضل عمر المختار، الذي أُعدم في السادس عشر من شهر سبتمبر (أيلول) عام 1931، والذي حارب المستعمر الإيطالي لأكثر من عشرين عاماً، وهو الشيخ المسنّ، وحتى استشهاده لم يمنّ على وطنه ولا أهله بما قام به هو ومَن رافقه من المجاهدين.
عمر المختار الذي صرخ في وجه المستعمر: «نعم، قاتلت ضد الحكومة الإيطالية، ولم أستسلم قط. لم تخطر ببالي قط فكرة الهرب»؛ فمفهوم النضال عند المختار ليس مرتبطاً بمعادلة النصر أو الاستسلام، بل كان مرتبطاً بالنصر أو الموت؛ فهو القائل: «ننتصر أو نموت».
حتى عندما وقع في الأسر، في 11 سبتمبر 1931، حين تمكنت القوات الإيطالية من اعتقاله بعد أن سقط عن جواده، بينما كان في منطقة سلنطة في الجبل الأخضر، ونُقِل جريحاً إلى بنغازي، وعُقِدت له محاكمة صورية في مركز إدارة الحزب الفاشي في بنغازي، وصباح 16 سبتمبر من عام 1931، في بلدة سلوق، تم إعدام شيخ الشهداء، بحضور الآلاف من الأهالي المعتقلين.
في الأسر، قال جنرال إيطالي مخاطباً المختار: «أيها البدوي اللعين، هل تعتقد أنك قادر على النصر وهزيمة إيطاليا؟»، أجابه عمر المختار مبتسماً: «النصر والهزيمة كلمتان يستعملهما الجنرالات. عندما يعتدي أجنبي على بلادي، فمن واجبي أن أقاوم. النصر والهزيمة كلمتان لا تعنياني»، فالمختار لم يشترِ حياته من جلاديه، بل قال لمعتقله، الجنرال غراتسياني: «إياك أن تقول للعالم إنني طلبت فداء حياتي منك»، بل قال له: «يستطيعُ المدفع إسكات صوتي... ولكنه لا يستطيع إلغاء حقي، وأنا على يقين أن حياتي ستكون أطول من حياة شانقي، وسوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم».
في زمن الكذب والزيف والنضال المزيف والمتاجرة ببضع سنين في «معارضة» زائفة لحكم القذافي، كما حدث ويحدث اليوم في ليبيا، التي يفصلها عن جهاد المختار مائة عام ونيف وعن استشهاده أكثر من تسعين عاماً، يبقى المناضل المختار مجاهداً استثنائياً، ولم يكن سياسياً مخادعاً ولا مناضلاً انتهازياً يثمن جهاده لوطنه، كما هو حال بعض مناضلي الدفع المسبق وسماسرة «النضال» مدفوع الأجر، فالمختار (رحمة الله عليه) كان استثنائياً حتى في مماته، ومن قبلها حياته وجهاده، يندر وجود شبيه له في هذه الأيام، التي أصبح فيها «للنضال» ثمن وتسعيرة بالمال.
عمر المختار شهد له عدوه، ردولفو غراتسياني، في كتابه «برقة الهادئة» (Cirenaica pacificata)، عندما سأله: «لماذا حاربتَ بشدَّة متواصلة الحكومة الفاشية؟»، فأجاب المختار: «من أجل ديني ووطني». كانت إجابة المختار إجابة المناضل الحقيقي والمجاهد الصابر المحتسب، لا المثمِّن لنضاله.
«شيخ المجاهدين» و«أسد الصحراء»، و«شيخ الشهداء»، عمر المختار، نفتقده اليوم في ليبيا، بعد أن تشتت شمل أبنائها بين الأمم، في صراعات بالوكالة، وثمّن بعضهم «النضال» الذي زعمه بالمال والمناصب، حتى تحول مفهوم النضال من التضحية إلى مفهوم الغنيمة.
هذا عمر المختار الذي كان بطلاً ومناضلاً استثنائياً حتى في عيون وكتابات أعدائه، قال عنه الجنرال غراتسياني في مذكراته: «هذا الرجل أسطورة الزمان، الذي نجا آلاف المرات من الموت ومن الأَسْر، واشتهر عند جنوده بالقداسة والاحترام؛ لأنه الرأس المفكر والقلب النابض للثورة العربية في برقة، وكذلك كان المنظّم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة».
سيبقى المختار في ذاكرة التاريخ ذلك المناضل والمجاهد الاستثنائي الذي فهم النضال تضحية من أجل الدين والوطن لا غنيمة ومناصب زائلة. لقد عشتَ بطلاً ومتَّ شهيداً سيدي عمر المختار، ولا نامت أعين الجبناء. فهلا وعى ذلك المتناطحون على السلطة في ليبيا.