سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

قصتي مع «جبل العار»

منذ عشرين سنة، والحرب مشتعلة بين أهالي طرابلس الذين تُرتكب بحقهم واحدة من أخطر الجرائم البيئية، والمنتفعين من تشييد وإطالة عمر جبل النفايات الفظيع بمحاذاة مرفأ المدينة. جبل صنعه الفساد، ومدّد أجله التواطؤ، مع أنه يهدد يومياً، ما يزيد على 800 ألف مواطن، وهو يرتفع باطراد حتى تجاوز الأربعين متراً علواً، وامتد عرضاً على مساحة هائلة، ولا يتوقف عن بث سمومه المسرطنة في أنوف الناس وشرايينهم. وهو فيما يشبه السخرية، نمت على سطحه الأعشاب، حتى تظن إذا ما نظرت إليه من أعلى، أنه حديقة منسية.
لغاية اللحظة، لا تزال الغلبة في قضية جبل النفايات، للمختلسين، القابضين على ملايين الدولارات التي تتدفق إلى جيوب لا أحد يملك حق تسميتها، في غياب كلمة فصل للقضاء. عشرات الشكاوى قُدمت، مئات الاحتجاجات، والبيانات، والاعتراضات، من دون جدوى.
عند موعد كل انتخابات، أشنّف أذني جيداً، أنتظر كلمة ولو نفاقاً وتملقاً، من مرشح حول جبل النفايات، لأنتخبه، فلا أسمعها. على العكس، بدل حلّ المشكلة أضيف منذ ثلاث سنوات إلى «جبل العار» الكبير، الذي تتعهده شركة حوّلته إلى كارثة على المدينة، جبل إضافي آخر بقربه أشد خطورة منه وأدهى، تخفيفاً عن الأول الذي فاض بما فيه. الوقاحة ممارسة لا سقف لها!
ليس هنا مكان الحديث عن تاريخ أهل المدينة مع المتعهدين والمتكسبين والمختلسين، بل للقول إن الحريق الهائل الذي اندلع في المكبّ ظُهر الأربعاء، لم تُسكته ساعات من الإطفاء، فيما الانبعاثات الشديدة الخطورة، كانت توزع موتها على أهالي المدينة.
لا جمعيات، ولا مجتمع مدني، ولا مجالس بلدية، تمكنوا من وضع حدٍّ لهذا الإجرام المتمادي من سنين طويلة. يخبرني مصباح الساكت، أحد الشبان الذين لا يزالون يحاولون درء شيء من الكارثة، أنه كان في سن الحادية والعشرين حين بدأ يتحرى ويتظاهر، ويكافح، من أجل حل هذه المأساة. بعد خمس سنوات، ها هو يقف متفرجاً أمام النيران التي تتصاعد وتهدد، ولا يملك للشر دفعاً.
تعود الشبان أن يبحروا بالمراكب، يحاولون اكتشاف الجهة البحرية للمكب الذي تحولت منطقته إلى محمية منغلقة على أسرارها. فالفساد يقتل الشفافية بالضربة القاضية. يخبرك الشبان أن مضخات تفريغ الجبل من الغاز، لا تعمل منذ سنوات، يرسلون لك صوراً تظهر أن حائط الدعم الذي يفترض أنه يمنع وصول القمامة إلى البحر انهار منذ زمن، ولا أحد يبالي. كان يفترض أن يتوقف العمل في هذا المطمر من دون فضائح وصراخ.
في الثمانينات خلال الحرب الأهلية بدأ المكبّ عشوائياً، صغيراً. مع حلول السلام، وبدء التأسيس لدولة تحتضن مواطنيها، بدل إيجاد حلول تؤمّن السلامة، تم تحويل هذا المكان الشديد الحساسية إلى أكبر وأسوأ مزبلة تراها عين، لم يعبأ أحد بصحة السكان، أو يسأل عن الانبعاثات.
كان سكان المنطقة الموازية يرون البحر من شرفاتهم، صاروا يصطبحون بأطنان القاذورات؛ بدل رائحة الليمون التي تفوح في المدينة وتمتلئ بها رئتاك انتعاشاً، صرت مضطراً لأن تغلق الشبابيك والأبواب، وتبتلع حبات لتسكين وجع الرأس، بسبب الروائح النفاذة الكريهة التي تهب عليك بين وقت وآخر. طلعات المواطنين الاستكشافية حول المطمر، تفيد في فهم ما يدبَّر لهم في الخفاء. لماذا تنبعث الروائح، حتى تُحيل الحياة جحيماً؟ مرة يكتشفون أن معمل التسبيخ يعمل من دون فلاتر، ولا يلتزم بقواعد السلامة، ومرة ثانية يخمّنون أن هناك من يحرّك القاذورات لتنفيس الغاز المتراكم أسفل النفايات، لتوفير تكلفة المضخات التي يفترض أن تقوم بالمهمة.
ناشطون تعرضوا لتهديدات مباشرة، لأنهم حاولوا المطالبة بحقوقهم. إلى هذا الحد النفايات في لبنان تحقق مكاسب عظيمة، تستحق الدفاع عنها؟
جهات كثيرة على استعداد لتمويل الحلول، لا شيء صعب، ولا يوجد مستحيل. لكن من تتدفق على جيوبهم أموال القاذورات، يقفون سداً منيعاً. هذه المرة لم يعد المطلوب إنهاء الكارثة، صار الواجب محاكمة المجرمين، وجعلهم عبرة لمن تسوّل له نفسه قتل الناس في سبيل سرقة موصوفة.
حلم بعيد المنال قد يكون. لكنّ جبل العار، رمزيته تحيل إلى ما حدث في لبنان منذ الحرب الأهلية وامتداد السلوك الميليشياوي، وقوننته، وتشريعه، ليصبح جزءاً من عمل الدولة وبعض مؤسساتها.
أكتب ولا تزال النيران مشتعلة في مكبّ الموت، حرقة في العينين، وضيق في الأنفاس ينتاب كثيرين، ممن يعانون من أمراض صدرية. لم تتوقف محاولات الإطفاء، وبينما تتم السيطرة على البؤرة المشتعلة، يكون الأذى قد وقع، وهو على أي حال مستمر.
جبل الموت، ملتصق بالبحر تنساب عصارته إلى البحر فتلوث المياه وتضرب حياة الأسماك وآكليها، وعلى تماسٍّ مع النهر الذي يقطع طرابلس... بقربه أيضاً مسلخ اللحوم وسوق الخضار والمرفأ مدخل المدينة، بوابتها المائية على العالم وكذلك الدفاع المدني الذي يُفترض أن يعالج الحرائق. أَكُلُّ هذا يمكن أن يحدث بمحض صدفة؟!