الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

بلاد تهوى الفراغ

الفراغ هو الحل. كل شيء قابل للتأجيل في هذه البلاد. ثرثرة لا تتوقف وجدل عقيم حول كل شيء إلا حول ما يستحق الجدل، مثل خبز الناس وأموالهم المحتجزة، ورواتبهم الوهمية، وظلامهم الدائم في الأيام والليالي.
وعندما يحين موعد اتخاذ أي قرار، مثل التحقيق في أكبر انفجار في قلب العاصمة، أو في اختيار رئيس جديد للجمهورية عندما تنتهي ولاية الرئيس المقيم، أو في تشكيل حكومة جديدة، أو في توفير شروط مطلوبة من العالم ليؤمّن أبسط المساعدات للشعب المنكوب، لا يجد من يديرون أموره سوى ممارسة هوايتهم الدائمة في تأجيل القرار واعتماد أسلوب النعامة.
والسيد فراغ هو ما ينتظر اللبنانيين، كما يبدو، مع نهاية عهد الرئيس ميشال عون بعد أقل من شهرين. ولا يعود السبب إلى أن البلد فارغ من الطامحين، والحمد لله.
ولا غرابة في أن يملأ الفراغ المقاعد الشاغرة، عندما يكون تعطيل عمل المؤسسات هو الوسيلة لفرض القرار الذي يخدم مصلحة القوة الفعلية التي تتحكم في مصير اللبنانيين. حصل ذلك في التاريخ القريب بعد نهاية عهد الرئيس إميل لحود عندما انتظر اللبنانيون سنة كاملة قبل انتخاب رئيس جديد، هو الرئيس ميشال سليمان، بعد نزاع كاد يأخذ البلد إلى حرب أهلية جديدة، فيما عُرف آنذاك بأحداث 7 مايو (أيار) 2008، التي افتعلها «حزب الله» في قلب بيروت. ثم كان على اللبنانيين أن ينتظروا سنتين ونصف سنة قبل أن يفرج «حزب الله» عن مجلس النواب الذي تحوّل إلى رهينة بيده، للضغط بهدف المجيء بالرئيس الحالي ميشال عون إلى الرئاسة الأولى سنة 2016.
واللبنانيون موعودون الآن بالانتظار مرة ثالثة ليخرج من صناديق مجلس النواب من يفوز بأكثرية الأصوات. وفي الحالات التي تحصل في البلدان الطبيعية، لا يحتاج الأمر إلى عناء كبير. إذ يجتمع النواب ويختارون بين المرشحين من يرونه مؤهلاً لهذا المنصب. غير أن لبنان ليس (أو على الأصح لم يعد) بلداً طبيعياً. فالعملية الديمقراطية التي كانت تسمح بوصول رئيس للجمهورية ولو بأكثرية صوت واحد، كما حصل مع انتخاب الرئيس سليمان فرنجية سنة 1970 لم تعد قائمة اليوم. والسبب أن هناك قوة قاهرة باتت تتحكم في القرار اللبناني، وبالتالي في قرار النواب، هي نفسها القوة التي عطلت المجلس في المرة الماضية لتفرض رئيساً موالياً لها وراعياً لمصالحها، وهو ما أثبت الرئيس ميشال عون وفاءً استثنائياً بالالتزام به.
وفي تصريحات عون الصحافية الأخيرة ما يوحي بأن التزامه هذا حيال «حزب الله» لا يزال ثابتاً حتى مع نهاية عهده. فهو يضع الشروط التي يجب أن تتوفر في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي لتولي مسؤوليات الرئاسة، إذا لم يتم التوصل إلى انتخاب رئيس جديد خلفاً له في آخر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. ويقول إنه لن يسمح لميقاتي «ومَن خلفه» بوضع يدهم على البلد، موضحاً أن حكومة تصريف الأعمال الحالية لا يمكنها أن تتحمل هذه المسؤولية، لأنها لا تملك «الشرعية الوطنية».
وبصرف النظر عن صحة موقف عون من حق حكومة تصريف الأعمال في تولي صلاحيات الرئيس، فإن التفسير الدستوري لهذا الحق ليس منوطاً برئيس الجمهورية، بل هو شأن يدور جدل حوله في لبنان بين مجلس النواب والمجلس الدستوري، لكنه في كل الأحوال ليس شأناً يعود لعون، الذي تنتهي صلاحياته الدستورية حكماً مع انتهاء ولايته، وليس بين هذه الصلاحيات ما يؤهله ليكون حكماً أو صاحب قرار بشأن من يخلفه.
غير أن الأشد دهشة، وربما قلقاً مما يمكن أن يقْدم عليه عون في نهاية الولاية، هو حديثه عن «علامة استفهام» (كما سمّاها) ستحيط بخطوته التالية والقرار الذي سيتخذه، إذا لم يوافق الرئيس ميقاتي على تشكيل الحكومة بالشروط التي تُرضي عون. هل يتجه إلى عدم ترك مقعد الرئاسة في افتعال فاضح لأزمة دستورية يمكن أن تتجاوز السياسة إلى ما يهدد الأمن؟ خصوصاً أن عون سجل مخالفة دستورية مماثلة، عندما رفض تسليم مقعد الرئاسة للرئيس المنتخب الياس الهراوي سنة 1989 بعد إقرار اتفاق الطائف الذي رفضه عون، رغم أنه كان معيناً في نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، رئيساً لحكومة انتقالية، مهمتها حصراً التحضير لانتخاب رئيس للجمهورية. وأدى رفضه آنذاك إلى مواجهة دامية انتهت بإخراجه بقوة المدافع السورية من قصر بعبدا.
حجة عون آنذاك مثل حجته اليوم؛ أنه مؤتمن على مصير البلد ولا يستطيع أن يتركه في أيدٍ غير أمينة. ولأن اليد الأمينة الوحيدة هي يده، فإن بقاءه في القصر الجمهوري يصبح الخيار الوحيد المتاح أمامه، لأنه يرى أن كل الأسماء المطروحة لرئاسة الجمهورية غير مؤهلة. أما النائب جبران باسيل، الذي يبدو أنه المؤهل الوحيد بنظر عون، فهو ليس مرشحاً، حسبما قال رئيس الجمهورية.
وكل هذا من رئيس شهد عهده أسوأ الأزمات التي واجهها اللبنانيون في اقتصادهم وفي مستوى عيشهم وفي حجم التعقيدات السياسية، وفي مقدمتها الفراغ الذي كان سببه الخلافات بين عون ورؤساء الحكومات المكلفين (سعد الحريري ومصطفى أديب واليوم نجيب ميقاتي)، وانتهى الأمر إلى أن ثلث ولاية عون، أي سنتين من ست سنوات (728 يوماً) انقضت من دون حكومة تستطيع الاجتماع واتخاذ القرارات التي تهم اللبنانيين وتخفف من الكوارث التي تحيط بهم.