يقول الصحافي الأميركي فريد زكريا إن السعودية لا تستطيع امتلاك برنامج نووي لأنها عجزت عن صنع سيارة. استنكر البعض، قالوا أليست فكرة ساذجة أن يهزأ عدّاء في ماراثون من زميله بأنه لن يقوى على اللحاق به، لأنه أسرع منه في تسريح شعره! ما علاقة تسريح الشعر بعضلات الساقين؟ وما علاقة صنع السيارة بإنتاج القنبلة النووية؟
لكني شخصيًا أتفق مع زكريا في هذا الجانب.. هناك حقًا أوجه شبه بين الصناعتين بالنسبة للسعوديين؛ فصناعة السيارات إحدى أهم الصناعات المطروحة في خطة التنمية الحالية والمقبلة في المملكة، والسبب، كما ذكرته في مقال سابق، أن المواد الخام لتصنيع السيارات متوفرة في المملكة بوصفها جزءا من ثروتها المعدنية؛ وهي الفولاذ والزجاج، أما التكنولوجيا، فيمكن استيرادها مرحليًا، كما يفعل كثير من الدول خلال مراحل تأسيس الصناعات، وكما حصل فعلاً بدخول السعودية حقل الصناعات البتروكيماوية، التي نشأت منذ خمسة عقود.. فقط عليها البدء في التنفيذ. على هذا المقياس وهذه المسافة نحن من الصناعة النووية. لدينا الفكرة والتخطيط والقدرة على استجلاب المواد، أما التكنولوجيا، فليست بعيدة المنال.
برنامج إيران النووي الذي يرى زكريا أنه لا يُحاكى، عمره 50 عامًا، وحتى اليوم، لم تصبح إيران قوة نووية. برنامج بدأ في عهد الشاه لإنتاج الطاقة بمعونة أميركية بشكل رئيسي، ثم تحول طلب المعونة إلى الصين وكوريا الشمالية مع ثورة الخميني، حيث اتخذت الطريق المحرم دوليًا لإنتاج السلاح. مدة طويلة، رغم أن البنية التحتية قائمة، وتكنولوجيا التصنيع تطورت بشكل مذهل واختصرت الزمن، فجهاز الطرد المركزي الذي يعد عصب تخصيب اليورانيوم، تطور كثيرًا في العقدين الماضيين كغيره من أدوات التصنيع التي قفزت نتيجة التركيز البحثي عليها. كان من المفترض أن تمتلك إيران سلاحًا نوويًا منذ 25 عامًا على أقل تقدير، ولكن طالت المدة بسبب سرية البرنامج واحتياطات إخفائه، وهو ما لن يحدث مع السعودية.
والبرنامج الإيراني ليس من نواتج التقدم العلمي كما هي الحال في أميركا أو أوروبا، بل مشروع علمي استثنائي عمل لأغراض سياسية، واستعان الإيرانيون لبنائه بكل الدول التي سبقتهم في الإنتاج النووي؛ من أميركا وأوروبا غربا، حتى كوريا الشمالية والصين وروسيا شرقا، سواء ببناء المفاعلات وتوفير المعدات، أو بالخبراء والفنيين، ولم ينشأ بسواعد خبراء وطلاب الفيزياء والرياضيات الإيرانيين كما يحاول زكريا إيهامنا.. فلماذا لا تستطيع السعودية أن تتخذ هذه الخطى، وهي التي دعمت برنامج باكستان النووي، ووقعت خلال السنوات الثلاث الأخيرة اتفاقيات تعاون في مجال الصناعة النووية مع الصين وكوريا الجنوبية، تحت مظلة مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة؟
لا توجد معاناة في أي بلد في الشرق الأوسط، إلا وكانت بصمات إيران ظاهرة عليه؛ في اليمن والبحرين والعراق وسوريا ولبنان وغزة، فكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يتصور أن دولة مارقة مثل إيران، تمتلك برنامجًا نوويًا ينتهي إلى رأس نووي، ولا يحق لدولة مجاورة لها أن تمتلكه؟
المجتمع الدولي ليس صافي النية والأفعال، بل يمارس نفاقًا واضحًا منذ معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي في الستينات الماضية، فالدول التي بادرت بالتوقيع على المعاهدة، هي إما دول غير معنية بامتلاك سلاح نووي، على الأقل في ذلك التوقيت، كدول الخليج ومعظم دول أفريقيا، أو أنها الدول التي أنهت تجاربها النووية، وأصبحت ترسانتها النووية مخبأة تحت الأرض مثل أميركا وبريطانيا. أما الدول التي كانت لا تزال تدير عملياتها وتجاربها مثل فرنسا والصين، فلم توقع حتى انتهت من تجاربها وأسست قاعدتها النووية! سيناريو لئيم مرتب عن عمد. هذا المجتمع يقف متفرجًا على المنطقة وهي تغوص أكثر فأكثر كل يوم في وحل التطرف والعنف، منطقة مليئة بكل أنواع الشرور؛ الأسلحة، والميليشيات المتوحشة، والحكومات التي ترحب بها، ثم يطالب بأن تكون خالية من الأسلحة النووية!
أعتقد أن التحدي في السعودية ليس في القدرة الإنتاجية للسلاح النووي، إنما في اتخاذ قرار البدء، وهو قرار لا تتمناه المملكة، بل ولا تزال تحاول أن تتجنبه من خلال الضغط على مجموعة دول «5+1» التي تفاوض إيران في برنامجها النووي، وفي حال فشلت السعودية في منع طهران من تطوير برنامجها النووي وإنتاج قنبلة نووية، فلن تتأخر كثيرًا في امتلاك مثيلتها، باستيرادها مؤقتًا ثم تصنيعها، وسيكون البرنامج السعودي نموذجًا فريدًا، للمحاكاة والتقليد، لأنه خط مستقيم على ورقة بيضاء، مستعينة فيه بآخر مستجدات هذه الصناعة، وهو حق لا ينازعها فيه أحد مع ما يراه العالم من فوضى تسببت فيها إيران بسماجتها السياسية وطموحها الأرعن.
وفي الواقع أن المملكة تحمل عبء أمنها وأمن دول الخليج واليمن، وحتى مصر والأردن، وقوة ترسانتها العسكرية صمام أمان لهذه الدول، وهي مسؤولية مزدوجة في الداخل والخارج لا يمكن إلا أن تحملها وتتحملها. السعودية التي فاجأت العالم بحصولها على الصواريخ الباليستية الصينية في التسعينات، والتي تمتلك علاقات بحثية متينة مع باكستان، وعلاقات اقتصادية قوية مع دول نووية، ستنجح حتمًا في تأسيس بنية تحتية لبرنامج نووي بمواردها البشرية والمالية متى ما رأت ذلك، وهي فعليًا قاب قوسين، وربما أدنى.
8:37 دقيقه
TT
صافرة انطلاق البرنامج النووي السعودي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة