فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

كرة الثلج من يوقفها؟

لا تبين نظرة مدققة إلى الداخل السوري مقدار الترديات القائمة هناك فقط، بل إنها تؤكد استمرار الترديات وتسارعها على طريقة كرة الثلج. وهذا حال مناطق سلطات الأمر الواقع الثلاث جميعها، التي تتقاسم الكيان السوري، ممثلة بنظام الأسد المسيطر أساساً في منطقة الوسط من حلب إلى درعا والساحل، ثم منطقة السيطرة التركية الممتدة في الشمال الغربي ومركزها إدلب وريف حلب، ثم منطقة شرق الفرات، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية «قسد» تحت قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) وتمتد بصورة أساسية من شرق حلب إلى الرقة وبعض الحسكة ودير الزور.
والسبب الرئيسي في تدهور الأحوال السورية، يكمن في خراب القوى المتحكمة والقابضة على السلطة من ميليشيات وقوى متشددة متطرفة ومسلحة، ومحدودة القدرات، وهو أمر ينطبق بشكل خاص على القوى المتحكمة في منطقة السيطرة التركية، حيث هيئة تحرير الشام وبقايا تشكيلات المعارضة المسلحة، والحال يقارب واقع شرق الفرات، التي تتحكم فيها (قسد)، ويقودها (PYD) المتطرف، تشاركه مجموعات محلية مصلحية محدودة النفوذ والتأثير، وحتى نظام الأسد الذي كان يدير الدولة والمجتمع فيما سبق، تحول مثل سابقيه إلى ميليشيات وعصابات مسلحة، أكثر من أن يشبه أي حكومة.
والأمر الثاني في أسباب التردي، ومساره إلى تفاقم متزايد، تمثله حالة الدمار التي وصل إليها السوريون في قدراتهم البشرية والمادية في المستويين الفردي والعمومي. وباستثناء ما أصابهم من عمليات قتل وجرح واعتقال وتهجير، طالت معظم السكان، دمرت معاشهم وأعمالهم، فإن قدراتهم المادية من ممتلكات وأعمال دمرت أو نهبت أو صودرت من قبل حملة السلاح، ونهبت أموالهم، وجرى دفعهم لصرف كثير منها في قنوات الفساد والرشوات، وأخرى طارئة على الفديات، وتكاليف صرفها السوريون في هجراتهم بحثاً عن ملاجئ آمنة، وفي الخلاصة صار السوريون غالبية من الفقراء والمعدمين، يعيشون أصعب الظروف وفق تأكيد التقارير الأممية.
والسبب الثالث للتردي، محدودية الموارد المحلية، وتوجيه أغلبها إلى مجالات لا تصب في مصلحة غالبية السكان، بل لصالح القوى المتحكمة والبطانة التي حولها من أدوات ومؤيدين، وتكاد الموارد تنحصر في أمرين أولهما الاتجار بالمواد المحلية سواء عبر السيطرة على مكامنها مثل النفط والغاز، أو فرض بيعها للسلطة المتحكمة، كما هو حال المحاصيل الزراعية ومنها القمح، وإلى ما سبق تعتبر الضرائب والرسوم مصدراً رئيسياً للموارد المحلية، تتشارك فيه القوى المتحكمة وميليشيات مقربة منها، وقد تدهورت بصورة ملموسة الموارد الخارجية التي تصل الداخل السوري سواء عبر الإعانات والمساعدات التي تقدمها دول بصورة مباشرة أو عبر مؤسسات دولية، وتراجع حجم هذه الإعانات في السنوات الأخيرة، كما أن حجم إعانات ومساعدات السوريين من مغتربين ومهاجرين ولاجئين إلى أهلهم تراجع هو الآخر في ضوء الظروف المحيطة.
والسبب الرابع لتردي الأحوال في الداخل السوري، يكمن في غياب أفق لحل سوري سواء من حيث المحتوى سياسياً أو عسكرياً كان، أو من حيث المستوى على الصعيد السوري العام أو في واحد من تفرعاته، حيث يثبت واقع سلطات الأمر الواقع، أنها لا يمكن أن تكون حلاً، وقد شهدنا في العقد الماضي أمثلة أخرى، ظهرت وانتهت كانت بينها دولة «داعش»، التي اختفت، وصارت مجرد حدث، كما انتهى غيره في أماكن أخرى.
ورغم أن المعطيات العامة، تؤكد تردي حالة الداخل السوري تحت سلطات الأمر الواقع، فإن كل واحدة منها تمضي على الطريق بتسارع مختلف نتيجة خصوصيات تميزها، أو نتيجة العوامل المحيطة، وغالباً بفعل الحالتين معاً، وهو ما يجعل الحالة في منطقة شرق الفرات، التي تسيطر عليها (قسد)، هي الأكثر سوءاً وتردياً، وتتزايد فيها سرعة كرة الثلج نزولاً إلى الكارثة.
ففي شرق الفرات، تمارس (قسد) وحزبها القابض (PYD) سياسة متشددة في المستويات كافة ليس فقط في ارتباط الحزب مع حزب العمال الكردستاني (PKK) المتموضع في جبال قنديل وآيديولوجيته وسياساته، إنما في إجبارها سوريين آخرين على الالتزام بذلك، وتجبر الجماعات من عرب وآشوريين سريان في أماكن سيطرتها على الانصياع للآيديولوجية والسياسات، وهي تبشر السوريين بدفعهم جميعاً على مسار «روجافا» في خطوة، (وإن كانت من لون مختلف) لا تختلف عن مشاريع شمولية متشددة، فات أوانها في سوريا مثل مسارات البعث وداعش والإخوان المسلمين.
إن سياسة التكريد بما فيها فرض التعليم على الجميع باللغة الكردية، والتجنيد الإلزامي للجميع، وممارسة التمييز العرقي تحت حجة «الداعشية»، وإدارة أملاك الغائبين، التي ليست سوى شكل من الاستيلاء على أملاك المهجرين والنازحين، لا تمثل سياسات في مشروع وطني مستقبلي، بل مؤشرات على غلبة، تكسب معاني شديدة السوء في ظل حقائق من بينها معارضة (PYD) لثورة السوريين في بداياتها، واعتداءاته على تظاهرات وحراكات الناشطين في الجزيرة، بمن فيهم الشباب الكرد، وفي المعارك التي خاضتها ميليشياته مبكراً ضد تشكيلات المعارضة المسلحة قبل أن تظهر الأسلمة والتطييف في صفوفها، وبعلاقاته مع النظام واستمرار التواصل والعلاقات مع مؤسساته، ولا سيما المؤسسة الأمنية العسكرية.
لقد ركزت (قسد) وحزب (PYD) في أهدافهما على نظام الإدارة الذاتية، وهو موضوع قابل للنقاش والتبني من جانب السوريين، وقد يكون خيارهم الأفضل، وشملت الأهداف الحرب على «داعش» وهذا أمر بين أولويات السوريين، ليس فقط لأن «داعش» تنظيم إرهابي متشدد، بل هو تنظيم وظيفي، ساهم في قتل وإخضاع السوريين من أجل بقاء واستمرار نظام الأسد، مما يجعل فكرة الجمع بين الحرب على «داعش» ونظام الأسد أساسية، تضاف إليها الحرب ضد إيران عند «قسد» و(PYD)، بخلاف ما يستمر عليه الأخير من علاقات وثيقة مع ايران ونظام الأسد، تستمر مع منظومة علاقاته مع الولايات المتحدة ورعايتها له، وسط مساعيه إلى علاقات أوثق مع روسيا.
وسط تلك البيئة من علاقات (قسد) و(PYD)، يتم التركيز على خط نقيض طابعه عداء شديد، يشمل جماعات المعارضة السورية بالشقين السياسي والعسكري وفيها المجلس الوطني الكردي، إضافة إلى إقليم شمال العراق، لكن الأهم في هذا الخط العداء مع تركيا الذي تختلط فيه وتتداخل أبعاد تاريخية وآيديولوجية وسياسية في آن معاً، إضافة إلى اتصاله في جانب بالعداء مع كرد المجلس الوطني، وجماعات المعارضة السورية، التي توصف بأنها مرتبطة بتركيا.
ويضع العداء المتبادل والمتصاعد بين تركيا و(قسد) منطقة الشمال السوري على قاعدة انفجار ليس في شرق الفرات وحدها، بل كل الداخل السوري، مضيفاً مساراً من الدم إلى كل خطوط الخراب الأخرى، واضعاً سوريا والسوريين أمام انهيار لا يتبيَّن مداه وحدوده. والسؤال الذي يطرحه الواقع اليوم: هل يستطيع طرف ما إيقاف كرة الثلج في سوريا؟