علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

التقمص الساذج والهزّة الكاذبة

بعد حديث محمد حسين هيكل عن كتاب (وجهة الإسلام) في ثلاثينات القرن الماضي، قرأ أنور الجندي عند محمد محمد حسين حديثاً موسعاً ومكرراً عن هذا الكتاب في كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، وفي الطبعة الثالثة لكتابه (حصوننا مهددة من داخلها)، وفي كتابه (الإسلام والحضارة الغربية)، فمحمد محمد حسين، يستند إلى هذا الكتاب بوصفه وثيقة تكشف خطة تغريب العالم الإسلامي!
وهو يعتمد في الإحالة إليه والاستشهاد به على نصه الأصلي باللغة الإنجليزية، لا على ترجمته باللغة العربية التي قام بها محمد عبد الهادي أبو ريدة، وقد ترجم عنوانه (Whither islam?) بقدر من التصرف الموفق (إلى أين يتجه الإسلام؟)، ما جعل عنوانه ذا معنى واضح باللغة العربية.
في ثمانينات القرن الماضي، كان أنور الجندي قد اشتهر عند جماهير الصحوة الإسلامية في العالم العربي، بأنه كاشف مؤامرات ومخططات (الاستشراق والتبشير والتغريب)، فرأى أن يتصرف بقصة محمد حسين هيكل مع كتاب (وجهة الإسلام) بقدر كبير من التزوير.
في القصة التي كررها وضخمها أنور الجندي يُنسب للكتاب أثر في تحول محمد حسين هيكل الفكري مع أن علاقة محمد حسين هيكل بالكتاب كانت لا تتعدى النطاق الذي حددناه في المقال السابق. فأنور الجندي لم يشأ أن يزعم أنه مر بتحول فكري من العلمانية إلى الإسلام، وأن لهذا الكتاب أثراً في هذا التحول، كما ادعى ذلك على محمد حسين هيكل، فعدل في فحوى هذا الأثر عليه، وجعله انكشافاً لخطة التغريب لناظريه حين قرأ ترجمة الكتاب إلى العربية، وعمره – كما قال - كان سبعة عشر عاماً.
في رواية ثانية ذكرها في كتابه (المدرسة الإسلامية على طريق الله ومنهج القرآن) قال: «بدأت أواجه الخطر في السابعة عشرة عندما ترجم الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألّفه المستشرقون الخمسة، هاملتون جب وزملاؤه عام 1934، حين لخصه الدكتور محمد حسين هيكل في السياسة الأسبوعية، وأنا غض الإهاب أتطلع إلى فهم حركة الفكر الإسلامي فهز نفسي هزاً أن وجدت هؤلاء الجماعة يكشفون للمرة الأولى عن هدف مبيت ضد الشرق والإسلام هو تغريب هذه الأمة، وقد قالوا:... وقد ظل السؤال معلقاً في نفسي عشر سنوات كاملة حتى لقيت الرجل الذي أجابني ودلني على الطريق لمواجهة هذا المخطط. كانت رسالة صغيرة ألّفها الأستاذ الإمام حسن البنا تحت عنوان (بين الأمس واليوم) أعتقد أنها هي مفتاح هذا العمل كله الذي وجهت إليه نفسي منذ ذلك اليوم إلى اليوم: أربعون عاماً كاملة».
إن أنور الجندي حوّر في هذه الرواية ونسبها إلى نفسه، لأنه أراد بوصفه عند جماهير الصحوة الإسلامية في العالم العربي كاشف مؤامرات ومخططات (الاستشراق والتبشير والتغريب) أن يضفي على كشفه المزعوم لمسة غربية استشراقية مباشرة. فهو تعرف على تلك المؤامرات والمخططات في عمر مبكر، بطريقة مباشرة وليس عبر كتاب إسلامي.
إن الصحافي محمد الباز – كما قلت في المقال السابق – صدق هذه الرواية، رغم أنه ليس من الإسلاميين، بل من نقادهم الليبراليين.
صدقها مع أنه أوحى في كتابه (صحافة الإثارة: السياسة والدين والجنس في الصحافة المصرية) برجوعه إلى بعض كتب أنور الجندي الأدبية.
إن كتب أنور الجندي الأدبية أعدادها كثيرة، لكنه لو رجع إلى أشهر كتاب أدبي له، وهو كتاب (المعارك الأدبية)، لوجد فيه الرواية بصيغتها غير المعدلة.
وصدقها مع أنه قال في كتابه – وما قاله هو صحيح - : «وينتمي أنور الجندي لجماعة الإخوان المسلمين، فقد التقى بمؤسسها حسن البنا في بداية حياته وبايعه على السمع والطاعة، وبلغ به الأمر أنه كان يضع أمام سرير نومه صورة لوالده وجده وحسن البنا».
وما ليس بصحيح هو قوله بعد ذلك مباشرة: «يمكن أن يصبح طبيعياً بعد ذلك ما أنتجه أنور الجندي في كتابه عما سماه الصحافة المسمومة، فهو ينتمي إلى تيار لديه وجهة نظر ليس في الصحافة فقط ولكن في الحياة كلها، وهي وجهة نظر تقوم على المنطلق الديني في تقييم الأشياء، وهو المنطق الذي ينحصر بين ثنائيات الحلال والحرام وافعل ولا تفعل...».
فلو كان ما قاله محمد الباز عن أنور الجندي صحيحاً لما كان أنور الجندي في مقدمة كتبها تحت عنوان (عشرون عاماً: 1932 – 1953) بتاريخ 5 ديسمبر (كانون الأول) 1954، طمس تجربته الإسلامية مع الإخوان المسلمين وأخفاها، وانسل من كتاباته الإسلامية.
ففي هذه المقدمة قال: «ثم تحولي إلى الإسلاميات واندفاعي فيها»!
وقال: «وفي فترة ما غلبت علي الروح الإسلامية بل الدينية، ثم تحررت منها».!
في الكتاب الذي أومأ إليه محمد الباز، وهو كتاب (الصحافة والأقلام المسمومة) الصادر عام 1980 أفرد أنور الجندي مساحة من النقد الديني لآراء أمينة السعيد التحررية، وفي كتابه (أضواء على حياة الأدباء المعاصرين) الصادر عم 1955 والذي كتبت له مقدمة العشرين عاماً، أشاد بريادتها في ميدان التحرر النسائي!
إن مقدمة العشرين عاماً لأنور الجندي التي اقتبست منها قولين له، ومؤلفات أنور الجندي الإسلامية الأولى ومؤلفاته الأدبية منذ منتصف أربعينات القرن الماضي إلى منتصف سبعيناته تنقضان تفسيره للأفكار الدينية بمنطقها الداخلي، وذلك حينما اتخذ من أنور الجندي مثالاً لهذا التفسير.
إن عودة أنور الجندي إلى الكتابة الإسلامية بشراسة وعدوانية في السبعينات ليست بسبب – حسب تعبير محمد الباز – انحصار المنطلق الديني بين ثنائيات الحلال والحرام وافعل ولا تفعل، فأحد أسبابه قد قاله في مقدمة العشرين عاماً.
قال في هذه المقدمة: «حقاً لقد قدمت إلى القارئ عدداً من الكتب في النقد والسياسة والاجتماع والإسلاميات، ولكني اليوم أنكر ماضيّ كله، ولا أحسب هذه المؤلفات ذات قيمة في تكوين شخصيتي الأدبية. فقد كنت أصدرها تحت ضغط رغبة واحدة، هي أن أظهر على المسرح الأدبي...».
وبالاستعانة بهذا الاعتراف الذاتي، أقول: إن عودته الشرسة والعدوانية إلى الكتابة الإسلامية والتي لم تكن معهودة في كتاباته الإسلامية الأولى، أفسرها بأنها كانت تصدر تحت رغبة واحدة، وهي الظهور والبروز على مسرح الصحوة الإسلامية.
قد يكون في مطالعة كتب أنور الجندي الأدبية عنت ومشقة على محمد الباز، لأنه مؤلف مكثر، لكن لو طالع – على الأقل – كتاب (وجهة الإسلام) المترجم إلى اللغة العربية، لعرف أن في حديث أنور الجندي عن هذا الكتاب تهويلاً ومبالغة.
يختلف الأمر مع تصديق حلمي القاعود لرواية أنور الجندي، لأنه ملمّ بمؤلفاته الأدبية وبمؤلفاته الإسلامية، ولأنه استصحب كتاباته من منتصف الستينات الميلادية، كما روى هو ذلك في كتابه (الزاهد: في صحبة الأستاذ أنور الجندي)، بالإضافة إلى أنه أديب وناقد، هو أكاديمي إسلامي ومنظر في مجال الإسلاميات.
وبموجب هذه الاعتبارات كلها، سأكون صارماً في مناقشته.
الفكر الإسلامي الحديث منذ نشأته انطوى على سجال مع الاستشراق. وكُتب في ذلك بعض المقالات. نجد هذا عند رائدين من رواده، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ونجده عند تلميذ الأخير رشيد رضا. وكرس نفسه أكثر لهذه القضية تلميذ محمد عبده الآخر عبد العزيز جاويش. وكانت في مصر صحف ومجلات معنية بمواجهة الأفكار الغربية. وفي هذا السياق أذكر بسلسلة مقالات (الغارة على العالم الإسلامي) التي منذ أن جمعت في كتاب لا تزال تقرأ إلى يومنا هذا.
ومن المصادفات أنه قبل ثلاثة أيام من نشر محمد حسين هيكل مقاله عن كتاب (وجهة الإسلام) في ملحق (السياسة) بتاريخ 14 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1933 الذي عرض فيه بعض ما جاء في هذا الكتاب مع شيء من المناقشة، قاد حسين الهراوي مفتش صحة مصر القديمة حملة في جريدة (الأهرام)، احتجاجاً على تعيين المستشرق الهولندي فينسنك عضواً في المجمع اللغوي الملكي.
يقول حسين الهراوي: «بعد نشر الفصلين السابقين في (الأهرام) تحدث جناب وزير هولندا المفوض بالنيابة إلى مندوب (الأهرام)، وقال: إن فينسنك اتصل به وكتب إليه أنه يحترم الإسلام، ولم يطعن فيه، وأنه لا حرج على البحث العلمي أن يتحرر من القيود. ومما يثبت احترام فنسنك للإسلام عنايته بعمل فهرس للأحاديث كلها».
وعلى إثر هذه الحملة صدر مرسوم ملكي بتعيين عضو آخر عوضاً عنه.
وكان الاستشراق في أول القرن الماضي عند طائفة من المثقفين أصحاب النزعة الدينية يقرن بالتبشير، قبل أن يفعل ذلك الإسلاميون في كتاباتهم عن الاستشراق.
كيف لا يعرف هذا أنور الجندي وهو من أول نشأته كان طلعة في القراءة. وفي الإفادات التي كتبها هو لمحمد المجذوب ليضع له ترجمة في كتابه (علماء ومفكرون عرفتهم)، والتي نقلها حلمي القاعود في كتابه، أفاد أنور الجندي بأنه نشأ في بيت علم ودين، وأن عينيه تفتحتا على كتب التراث، وأن والده إلى جانب عنايته بهذه الكتب كان متابعاً للحديث من مقالات المعاصرين. وممن قرأ لهم أنور في صغره محمد فريد وجدي. وهذا المفكر الديني ذو الثقافة الحديثة صرف قدراً غير يسير من عنايته في مقارعة الأفكار الغربية بأسلوب عصري.
ومن غير المجدي أن نتمنى على حلمي القاعود لو طالع كتاب (وجهة الإسلام)، ليتأكد من صحة ادعاءات أستاذه حوله. فسيان عنده طالع الكتاب أم لم يطالعه. فلقد رأيته بعد أن فرغ من نقل كلام أنور الجندي الطويل العريض عنه من كتاب (علماء ومفكرون عرفتهم) طفق بقول كلام على أنه له، ثم اكتشفت أنه نقل حرفي مما قاله أنور الجندي في الموضوع نفسه، في أوراق قيل إنها وجدت بخطه وعليها توقيعه.
لكن قد يكون من المفيد لفت نظره، أن مفكراً إسلامياً له مقام في عقله ووجدانه، هو مالك بن نبي استوحى عنوان كتابه (وجهة العالم الإسلامي) من عنوان ذلك الكتاب الاستشراقي. وفي كتابه هذا ثمّن كثيراً كتاب هاملتون جب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، واعتبره مرشداً ثميناً لكتابه في دراسة الأمراض شبه الصبيانية في العالم الإسلامي. اعتبره كذلك بعد أن أورد ما يختلف فيه معه من آراء.
يقول حلمي القاعود: «ويرتبط بكتاب (وجهة الإسلام) كتاب آخر أشار إليه أنور الجندي في تشكيل اتجاهه نحو الاغتراف من أصول الإسلام الصحيحة ليواجه المخطط التغريبي هو كتاب (كيف صححت إسلامي؟) لكاتب مسلم يعرفه (لم يقل لنا اسمه!)، فقد كشف له عن أن الإسلام ليس ديناً تعبدياً، وإنما هو منهج حياة ونظام مجتمع كامل، والعقيدة والعبادة جزء منه، ولكنها ليست الإسلام كله...».
لنأت بالنص الأصلي:
في أوراق يقول موقع الإخوان المسلمون إنها وجدت بخط أنور الجندي وعليها توقيعه، يدعي أنور الجندي أن أول أمر شكل حياته «ذلك الكتاب الذي أصدره خمسة من المستشرقين حول الإسلام والذي قص فيه رائدهم (هاملتون جب) تلك القضية الخطيرة:... ثانيهما: كان موضوعاً لكاتب مسلم أعرفه تحت عنوان: (كيف صححت إسلامي؟). فقد كشف لي عن أن الإسلام ليس ديناً...».
ما كان «موضوعاً» عند أنور الجندي صار بين يدي حلمي القاعود «كتاباً»! وليزيد هذا الأخير هذا الأمر الغامض غموضاً، فتح هلاليين، وكتب ما بينهما هذه الجملة: لم يقل لنا اسمه، مصحوبة بعلامة تعجب.
لا يوجد كتاب اسمه (كيف صححت إسلامي) - والذي كان بالنسبة لأنور الجندي ــ المحطة التالية لمحطة كتاب (وجهة الإسلام).
«الموضوع»، هو مقال قصير لزميله اللدود في جماعة الإخوان المسلمين أحمد أنس الحجاجي حمل هذا العنوان (كيف صححت إسلامي؟) يحكي فيه – مفاخراً - كيف اعتنق الدين التصحيحي، دين الإخوان المسلمين، عن طريق نبي هذا الدين حسن البنا، وليس عن طريق أتباعه. وهذا المقال معاد نشره في موقع الإخوان المسلمين.
وفي بيانات نشره في هذا الموقع مذكور أنه نشر في مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد 215، السنة السادسة 2 سبتمبر (أيلول) 1948!
إن أنور الجندي في أوراقه الأخيرة يهذي بهذه الرواية. فما كشفه له الكاتب المسلم عن شمولية الإسلام كان يعرفه سلفاً منذ عام 1944. وذلك حين قرأ رسالة البنا (بين الأمس واليوم). هذا إذا اعتمدنا تزمينه لتعرفه على كتابات البنا في روايته الثانية التي قالها في كتابه (المدرسة الإسلامية على طريق الله ومنهج (القرآن). ثم إنه منذ منتصف الأربعينات كان من كتبة الإخوان المسلمين.
في الرواية الأولى اقتصر أثر قراءته لكتاب (وجهة الإسلام) عليه في رفع الغطاء عن خطة التغريب. وفي الرواية الثانية زاد فيها، بأن رسالة من رسائل البنا دلته على الطريق المفضي لمواجهة التغريب. وفي الرواية الثالثة نسب هذا الفضل لمقال كتبه أحمد أنس الحجاجي بعد أربع وعشرين سنة من ترجمة كتاب (وجهة الإسلام) إلى العربية.
ولا يتوقف اضطراب روايته على ما ذكرته، فهو في رواية قرأ ترجمة الكتاب عام 1934، وفي رواية أخرى قرأها عام 1940! والأعجب أن حلمي محمد القاعود ينقل عنه هاتين الروايتين في صفحتين تفصل بينهما صفحة واحدة بسطور غير مضطربة!
وأنور الجندي حيناً قرأ تلخيصاً لكتاب (وجهة الإسلام) – يقصد تلخيص هيكل له – وحيناً قرأ ترجمته!
في الاقتباس الذي نقلته من كتابه (صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر) في المقال السابق، قال عن (وجهة الإسلام) وقد لخصه محمد حسين هيكل في (السياسة الأسبوعية)، فقد «هزته» ما في هذا الكتاب من فقرات فهم منها ما يريده الغرب من حركة تغريب الشرق.
في هذه الرواية التي ادعاها على هيكل، كان هيكل هو «المهزوز» بالكتاب. وفي هذه الرواية بعد أن تقمصها وأزاح هيكلاً منها، صار هو «المهزوز» بالكتاب. انظر إلى قوله أعلاه في روايته الثانية «فهز نفسي هزاً». وللحديث بقية.