إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

ملكة تعرف جنازتها

بين شهر وآخر، يطلع علينا التلفزيون بفيلم وثائقي عن ملكة بريطانيا. صرنا نعرف سيرتها أكثر مما نعرف تفاصيل حياة أمهاتنا وجدّاتنا. وفي كل مرّة نكتشف معلومة جديدة. منها أن إليزابيث الثانية لا تملك جواز سفر. ولا بطاقة ائتمان. وهي مثل الملكات والملوك لا تحمل معها نقوداً. وإذا حدث وأمسكت ورقة نقدية جديدة فلكي تتأمل صورتها المرسومة عليها.
اعتذرت الملكة المخضرمة عن قبول جائزة تمنحها مجلة موجهة لكبار السن. إنها في السادسة والتسعين فحسب. تمارس واجباتها وتطلّ على مواطنيها بقبعاتها الملونة. في حقيبتها مرآة صغيرة وأحمر شفاه وعلبة من أقراص النعناع. لماذا عليها أن تقبل جائزة مخصصة للعواجيز؟ كان زوجها الراحل دوق أدنبرة قد قبل تلك الجائزة. وبالسخرية التي اشتهر بها كتب للمجلة خطاباً يشكرها فيه على رفع معنوياته بتذكيره بمرور السنوات وتهالك الجسد.
يوم جاءت إلى باريس للمشاركة في احتفالات الذكرى السبعين لإنزال الحلفاء على شواطئ «النورماندي»، نالت من الحفاوة ما لم ينله الملوك والرؤساء الحاضرون. كانت تقترب من التسعين ونزلت من قطار «يوروستار» مثل تلميذة سائحة. قطعت «الشانزليزيه» برفقة الرئيس هولاند نحو قوس النصر. ترك موظفو البروتوكول السيارة الرئاسية في المرأب لأن سقفها المنخفض لا يلائم قبعة الملكة. وفي حفل العشاء الرسمي تمتعت الضيفة باستثناء خاص هو أن تختار الأطباق التي تحبها من المطبخ الفرنسي. وفي آخر العشاء اختارت جبنة «الكامومبير» في تحية لمقاطعة «النورماندي».
تتحدث إليزابيث الثانية الفرنسية بطلاقة. تعرف باريس منذ أن زارتها وهي مراهقة. أحبت يومذاك سوق الزهور والعصافير وسط العاصمة. وفيما بعد كرّمها الفرنسيون بإطلاق اسمها على السوق. لا تتكلم في السياسة وتحتفظ بملامح محايدة في كل الأوقات. ضبطت أعصابها بشكل حديدي وهي تلتقي مارتن ماكغينيز، نائب رئيس وزراء إيرلندا الشمالية، عام 2012. بابتسامة مقتضبة واجهت الرجل الذي تعتبره زعيم منظمة مارقة. استقبلت خصمها «الإرهابي» على مائدتها في قصر وندسور وغلّبت مصلحة الدولة على المشاعر الشخصية.
يقتضي البروتوكول أن يحني الرجال رؤوسهم عند مقابلتها، وتثني النساء الركبة اليسرى وراء الساق اليمنى. لكن الرئيس شيراك، بما عرف عنه من تلقائية، خالف القواعد ومد يده ليصافح الملكة. ثم جاءت الهفوة الأكبر من الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ارتبك في مشيته بجانبها وتجاوزها بخطوتين والتفت باحثًا عنها. وهي قد عذرته لأنه كان «مستجداً» في المنصب. لقد مرّ عليها مئات الحاكمين خلال سبعين عاماً ملكت فيها ولم تحكم.
عرف الجمهور العريض، من خلال مسلسل تلفزيوني، أن لإليزابيث الثانية حماة. أمر طبيعي طالما أن زوجها ليس من أطفال الأنابيب. والحماة نبيلة يونانية دخلت سلك الرهبنة في فترة من حياتها وعانت من اضطرابات عصبية. أودعت مصحة نفسية وكان طبيبها سيغموند فرويد. ورغم تعثر العلاقة بين دوق أدنبرة ووالدته فإنه سعى لاستقدامها إلى لندن بعد الانقلاب العسكري في اليونان. وتصرفّت إليزابيث بأصلها وقدمت لحماتها غرفة في قصر «بكنغهام»، عاشت فيها حتى وفاتها.
تتطرق تقارير صحافية إلى استعدادات بريطانية شتى في حال حانت ساعة الملكة. تعرف إليزابيث الثانية تفاصيل مراسم وداعها. حداد شامل وجنازة كبرى واحتياطات أمنية لا تقل عن مواجهة عملية عسكرية. حدث يفوق المونديال ومؤتمرات القمة والأعراس الملكية والرحلات الفضائية إلى الكواكب. امرأة دخلت التاريخ قبل أن تغادر الدنيا. ولن تكون بريطانيا بعد إليزابيث الثانية هي نفسها قبل إليزابيث. سيكون مصير الملكية على المحك.