د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الإنجليز أمة لا تقهر!

سيبقى فضل الإنجليز على سائر الأمم لعقود طويلة، وذلك بسبب جلدهم وإسهاماتهم التي يشار إليها بالبنان. ففي بلادهم بزغ نجم الثورة الصناعية التي حركت هدير الآلات في شتى أرجاء المعمورة.
وحفروا كذلك القنوات المائية البريطانية (الكانال) التي مهدت للثورة الصناعية الرائدة في العالم. وهي القنوات نفسها التي جعلتهم لاحقاً يتبوأون قمة كفاءة أنظمة النقل في العالم حتى يومنا هذا.
صحيح أن سرعة القوارب المائية آنذاك لم تكن تتجاوز سبعة كيلومترات في الساعة، لكن انسيابيتها وبعدها عن الأمواج، فضلاً على ضيق طرق اليابسة، جعلها أفضل بديل اقتصادي وآمن لنقل المواد الأولية والسلع والبضائع، خصوصاً القابلة للكسر. والأهم من ذلك كله أن القنوات المائية قد خفضت تكلفة نقل الفحم (وقود الثورة الصناعية لاحقاً) إلى أكثر من النصف، وهو تقدم هائل في التجارة والصناعة. وبرز ذلك بعد أن بدأت قناة «بريدج واتر» الشهيرة بالعمل في مانشستر عام 1761، حيث أكتب مقالي هذا في شمال البلاد، مهد الصناعة. فبدأت الدولة وحتى الأسر التجارية الثرية بحفر القنوات في تسابق محموم لتنشيط التجارة في قلب هذه الجزيرة العملاقة، وذلك بفضل بعد النظر والرؤية الثاقبة.
عاشت هذه الأمة لنحو ألف عام، خاضت حروباً عديدة، انتصرت تارة وهزمت تارة أخرى، لكنها ما زالت مستمرة. يمتلك الإنجليزي بطبيعته كمية هائلة من الحذر، تراها في نظراته، وإيماءاته وسلوكياته وهو في عقر داره، ناهيك عن تصرفاته عندما يعبر البحار للعيش في ربوع بلدان أخرى. يعرف كثير منهم كيف يتأقلم مع محيطه ويحترم ثقافتهم. حارب مع الإنجليز في حروبهم نحو مليون هندي، ثم فتح الإنجليز بلادهم لكل الثقافات، التي انصهرت في بوتقة عاصمة التنوع الثقافي. حتى قيل إن عدد المطاعم الهندية في أزقة لندن تتجاوز أعداد المطاعم نفسها في دلهي!
وقد كسرت بريطانيا معادلة الخوف من الأجنبي، أو شيطنته، فكثير من شعبها هم من أصول غير إنجليزية، لكنهم وملايين السياح يعيشون بهدوء تحت سلطان القانون. فحمى طرد المقيمين (الوافدين) وارتدادات التوجهات المتشددة في أوروبا لم تغير شيئاً يذكر من ثقافة التعايش.
وأنا أنظر من نافذة الطائرة على الأراضي الإنجليزية لا أكاد أجد كيلومتراً واحداً غير مأهول أو مستغل لأمة عاشت في كل العصور بحكمة وبصيرة. وعندما كانت الحرب العالمية في أوجها، كان الإنجليز يتنقلون بسلام وهدوء في شبكة مترو الأنفاق تحت الأرض، حتى صار «الأندرغراوند» أيقونة على جَلَدَ الإنجليز وبحثهم الذي لا يتوقف عن سبل البقاء.