مويا لوثيان ماكلين
TT

بريطانيا بين قيظين... الحر والسياسة

مناخ بريطانيا المعتدل الذي لطالما نعمت به، تبدل هذه الأيام مناخاً شديد الحرارة وغدا «أكثر سخونة من الصحراء» ذاتها، حسب وصف صحيفة «ذا صن» في صدر صفحتها الأولى، الاثنين الماضي.
جاء اختيار العنوان دقيقاً بصورة لم نعهدها كثيراً في الصحف. فبحلول ظهيرة ذلك اليوم، أكد خبراء الأرصاد الجوية البريطانيون أن إنجلترا واسكوتلندا وآيرلندا الشمالية شهدت أعلى درجات حرارة خلال العام حتى الآن، تحديداً ويلز التي كان الطقس فيها مرعباً، محطماً رقمه القياسي في اليوم الأكثر سخونة على الإطلاق، ليس مرة واحدة بل مرتين.
بالنسبة للمشكلات التي تسببت فيها حالة الغليان، فإن درجات الحرارة التي تصل إلى 40 درجة مئوية، أو 104 درجات فهرنهايت، لا تسبب الكثير من المعضلات في قارة أوروبا، لكن بريطانيا دون غيرها لم تستطع التأقلم. فأجزاء من جنوب إنجلترا -حيث كانت الحرارة أقسى- انحرفت، بالمعنى الحرفي للكلمة، في بعض الأوقات، حيث وردت تقارير عن «ذوبان» أرضيات مدارج الهبوط بالمطارات لتتسبب في توقف حركة الطيران. كذلك أُغلقت المدارس في جميع أنحاء البلاد، وخفضت السكك الحديدية حركتها، وألغت المستشفيات المواعيد الروتينية والعمليات الجراحية، مما زاد الضغط على أقسام الطوارئ.
ردّت وسائل الإعلام البريطانية، التي كانت في أسعد لحظاتها بسبب الطقس، كأنها تستمتع بما يجري، وعرضت الأحداث الفوضوية التي جلبها ارتفاع مؤشر الزئبق في ترمومتر قياس الحرارة، فيما عرض الأطباء المشهورون على شاشات التلفاز نصائح ثمينة مثل «اشرب الماء» كثيراً في أثناء النهار، فيما عرض البعض نصائح لنمط حياة مفعم بالحيوية مثل تناول «جازباتشو» –حساء إسباني بارد- يمكن أن يعطي إحساس راحة قصيرة الأجل، أو تناول عصير البصل، وهي وصفه من شأنها أن تخفف من وطأة الإحساس المزعج بالحر.
امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالنصائح للتغلب على نكبة الحر، من الاستلقاء إلى الاستحمام البارد المنتظم. لكن بصرف النظر عن كل ذلك، فقد جاءت النصائح لتكشف عن عدم استعداد البلاد للتعامل مع الحر. فهذا النوع من الطقس (الذي تخفف أجهزة تكييف الهواء من وطأته بالطبع) كان يوماً ما رفاهية لا يبلغها إلا الأثرياء القادرون على السفر بعيداً لقضاء عطلاتهم الفاخرة في الخارج.
الآن وبفضل تغير المناخ الذي زاد من تواتر موجات الحرارة، فقد بات الطقس الحار ميراثاً مشتركاً للجميع. لكن ما نراه في الطقس الحالي تجربة بعيدة كل البعد عن متعة الحر الشديد في المنازل المحاصَرة بأشعة الشمس الحارقة، والتي يعاني منها الفقراء وكبار السن أكثر من غيرهم. فبريطانيا تذوب وليس لدينا أكثر من مناشف مبللة بالماء وأحواض استحمام نغمس فيها أقدامنا لنتغلب على هذا الإحساس المزعج.
بالتأكيد ليست هناك مساعدة من حكومة المحافظين. فدومينيك راب، نائب رئيس الوزراء وأحد أعضاء مجلس الوزراء القلائل الذين لم يستقيلوا خلال الثورة الناجحة ضد بوريس جونسون، أوعز للجمهور بالتعامل بـ«مرونة» مع ارتفاع الحرارة الشديد، مضيفاً أن الأفراد بحاجة إلى التكيف، وليس الدولة. الطريف أنه داعب المذيعين بمرح ظاهر قائلاً: «يجب أن نستمتع بأشعة الشمس».
يشكّ المرء في أن مثل هذه المرونة التي ينادي بها راب سيكون من الأسهل استدعاؤها حال تجاهلت حكومات المحافظين المتعاقبة التحذيرات الرسمية لتحصين البنية التحتية لبريطانيا ضد التهديد المتزايد للحرارة الشديدة. ففي عام 2021 خلصت هيئة استشارية حكومية هي «لجنة تغير المناخ» إلى أن الحكومة فشلت بشكل كامل في حماية الناس من الظروف الجوية القاسية.
وذكر التقرير أن «المملكة المتحدة لديها القدرة والموارد للاستجابة بفاعلية، لكنها لم تفعل».
ليس هناك ما يشير إلى أن التغيير سيحدث قريباً. في الواقع، حتى الالتزامات الوهمية للحكومة لمكافحة تغير المناخ يمكن أن تتراجع قريباً. فبينما كانت بريطانيا تستعد لتجربة إحساس الشواء عشية الأحد الماضي، اجتمع المرشحون في قيادة حزب المحافظين لإجراء مناظرة تلفزيونية.
ووسط تناقضات محرجة وتحولات رهيبة في الكلمات، ظهر قاسم مشترك: لم يكن أي مرشح مستعداً لالتزام خطط تغيير البنية التحتية للحد من انبعاثات الكربون بحلول عام 2050، وهو تعهد ورد في بيان حزب المحافظين عام 2019 انتقده العلماء بالفعل نظراً لمحدوديته وتأخير إعلانه.
على الرغم من أن ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، وبيني مورداونت، وزيرة التجارة البريطانية، قالتا إنهما ستدعمان الهدف، فإن غالبية المرشحين يبدون قلقين بشأن التكلفة المالية لتحويل الطاقة. وذهبت كيمي بادنوش، وزيرة العدل السابقة، التي نصّبت نفسها مناهضة لحركة «ووك» -حركة مناهضة للتمييز العنصري- أبعد من ذلك بأن سعت لقيادة الجماعة الفاشية «بريطانيا أولاً»، حيث قالت: «إذا أفلسنا أنفسنا، فسوف نترك مستقبلاً رهيباً لأطفالنا. أفضل لنا أن نعيش في دولة تواجه عجزاً ضئيلاً عن العيش في كوكب صالح للعيش».
لكنّ حجّتها تذبل تحت وهج الشمس الذي لا يرحم. فالأمر لا يقتصر على أن مؤشرات الحرارة في جميع أنحاء البلاد تُظهر أن قيظ حرارة المستقبل قد حل علينا بالفعل. فوفقاً لأحد التقديرات، فإن التكيف مع المناخ إجراء أكثر فاعلية من حيث التكلفة بواقع عشرة أضعاف الخسائر الناجمة عن عدم اتخاذ أي إجراء. فعدم القيام بأي إجراء أمر لا معنى له، لا إنسانياً ولا اقتصادياً.
كان الاستثناء الجزئي لجوقة المراوغة هو ريشي سوناك، مستشار الخزانة الحالي وعضو حزب المحافظين، الذي يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه خليفة محتمل للسيد جونسون. ولكن على الرغم من أن سوناك كان أكثر قابلية للتكيف بشكل عام مع السياسات الخضراء (صديقة للبيئة)، فقد ورد أنه كان يقاوم تخصيص التمويل لمشاريع المناخ عندما كان وزيراً للمالية -ويبدو أنه على استعداد للتخلي عن تدابير المناخ باسم النزاهة المالية. لكنّ هذه المواقف غير الملزمة لن تضر بمكانته في المنافسة على زعامة حزب المحافظين. تكشف استطلاعات الرأي أن العمل المناخي يمثل الأولوية الأدنى بالنسبة لنحو 180 ألف عضو من المحافظين الذين يختارون الزعيم التالي للبلاد.
في مثل هذه البيئة، يمكن فهم قدرية قضية المناخ. لكن هناك بالفعل حلول فورية للظروف المناخية القاسية مثل زراعة المزيد من الأشجار، وتخصيص وبناء مساحات باردة، وعزل المنازل حرارياً. كل هذه ليست باكتشافات جديدة. فحسب البروفسور مايك تيبتون، فإن روما القديمة لطالما كانت مولعة بالنوافير والحدائق العامة، «منذ أكثر من 2000».
لدى البريطانيين خيارات أبعد من شراء مروحة منزلية، سواء أدركنا ذلك أم لا. أمامنا خياران: إما أن نجلس ونغلي مثل «اللوبستر» في قِدرٍ ملتهب، وإما أن نجبر أنفسنا على مواجهة المستقبل الذي بدا بعيداً عن مخيلتنا إلى أن حل فجأة.
* صحافية تكتب في الشأنين السياسي والثقافي
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»