يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

نجاحات قمة جدة: المعنى والصورة في آن

التفتيش عن المعنى لا عن الصورة، كما يقول الروحانيون القدامى في الثقافة الإسلامية، هو أهم ما يجب على المجتمع الأميركي والصحافة والسياسيين التفكير فيه، عقب زيارة بايدن التي قدمت فيها المملكة العربية السعودية نموذجاً مشرفاً على مستوى الصورة والمعنى، بما يفوق كل التوقعات، لا سيما في مسألتين أساسيتين خارج موضوع القمة: السيادة، وتقبل الاختلاف في مسألة القيم رغم المشتركات.
حسب علماء اللغويات والتحليل النفسي، تشير لغة الجسد إلى الإشارات غير اللفظية التي يتم استخدامها في التواصل، ويؤكد الخبراء أنها أعمق في التواصل النخبوي والسياسي جزء منه، فهي تشكل ما بين 50 في المائة - 70 في المائة من العملية التواصلية، لذلك يمكن أن نفهم هذا الإلحاح الذي اقترب من حدود السطحية في التركيز على «الصورة» و«لغة الجسد»، ونسيان المعنى ودلالات المواقف، ومع ذلك فاضت الصور بين رؤساء دول الخليج والاعتدال العربي، وما نسجته من تآلف وانسجام، ثم ذلك الحضور للرئيس الأميركي، إلا أن المعنى هو ما يجب الحديث عنه اليوم.
في معهد واشنطن للسياسات، كتب خبير ملف الخليج سايمون هندرسون، مقالاً بعنوان «الصورة قد تتكلم»، أكد فيه أن التقاط بعض الصور يعد نجاحاً على مستوى تنشيط العلاقات الفاترة، وأنه مرهون بتصويب سياسي لقضايا تركت تتفاقم، وفي الوقت نفسه كتب مايكل مايكل آيزنشتات، ورقة عن المفاجأة الأميركية بزيارة المملكة التي قد تزعج إيران، التي رأى أنها ستحاول جاهدة عرقة الرحلة، وعلى مدى ساعة ونصف الساعة، عقد ثلاثة خبراء؛ تمار هيرمان ودينس روس وروبورت ساتلوف، حلقة نقاشية على منصات «البودكاست» نشرت في أكثر من موقع بحثي، لبحث الفرص والتحديات من زيارة بايدن، والحق يقال إن كل المحتوى الذي أنتجته مراكز الأبحاث هذه وهي أكثر كفاءة وجودة من كل مخرجات معظم الصحافة الأميركية، التي تعيش أكثر فتراتها مراهقة، لم ترق إلى مستوى الحدث. فالقراءات كلها جاءت من زاوية «الفعل الأميركي» وردة «الفعل السعودي ولدول الاعتدال»، وما حدث كان العكس حيث تطابقت «الصورة» و«المعنى»، كانت الكلمات جميعها، بدءاً بالكلمة الاستثنائية لولي العهد وباقي الرؤساء، وصولاً إلى كلمة الرئيس عبد الفتاح السياسي التفصيلية، مخالفة لكل التوقعات، وعلى كل المستويات والملفات من عقلنة الشره غير السياسي لمسألة زيادة الإنتاج، وملف الطاقة، وصولاً إلى تكريس مسألة السيادة وعدم التدخل، وحتى المسألة الأهم؛ القيم التي يجب على الولايات المتحدة أن تكف على تصديرها كقيم عالمية إنسانوية يجب أن تستنبت باعتبارها قسيمة الديمقراطية في أرض غير خصبة أو لا تتقبلها، والشيء نفسه عن السلام المنقوص في الملف الفلسطيني، والأمر الأكثر نجاحاً مع تدشين السعودية قطيعة حاسمة على مستوى الابتزاز السياسي التي تطلق برافعات أخلاقية متحيزة.
وحتى ملف الطاقة الذي راهن عليه الجميع في كل المقالات الاستباقية، كان الموقف السعودي فيه يجسد السيادة والعقلانية الدقيقة في التأكيد على أن تسييس ملف النفط خطأ كبير، وأن مجموعة «الأوبك بلس» ستواصل تقيم أوضاع السوق، وأن الحل ليس قراراً مرتجلاً على طريقة «الصنبور» الذي تستخدمه الصحافة المراهقة في الولايات المتحدة.
النجاحات الضخمة التي تحققت للسعودية ودول الاعتدال، لا يمكن حصرها في هذا المقال، وتحتاج إلى العديد من الدراسات والرصد، لكن الأصداء الأولية كانت لافتة بشكل مذهل حتى في أبعد نقطة يمكن أن نتخيلها مثل نيوزيلندا، كتب جيفري ميلر المحلل الدولي لمشروع الديمقراطية وخبير السياسة الخارجية لنيوزلندا، مقالاً مهماً للصحيفة الرسمية (www.stuff.co.nz) بعنوان: قبضة بايدن ستساعد نيوزلندا على إعادة ضبط جدول أعمالها في الشرق الأوسط، وقال فيه بالحرف: «أظهرت رحلة الرئيس بايدن إلى السعودية أنه لا يمكن تجاهل الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط في اللغز الجيوسياسي العالمي الحالي، وأن لقاءه بولي العهد السعودي (انتصار للواقعية على المثالية)».
الصورة والمعنى كانا في الحيوية الشابة التي كرسها مهندس «رؤية 2030» الأمير محمد بن سلمان، الذي أكد أن الثروة الحقيقية والعمود الأساسي للسعودية والمنطقة هم الشباب... فهم حسب كلماته ثروتنا الأولى التي لا تعادلها ثروة مهما بلغت؛ شعب طموح، معظمه من الشباب، هو فخر بلادنا وضمان مستقبلها.
تفاصيل الصورة والمعنى في النجاح السعودي الكبير في الزيارة الأخيرة رغم كل تحديات ما بعدها، تكمن في التفاصيل خلف الخطوط العريضة للتحول الوطني الكبير الذي تعيشه السعودية، ويفخر به الداخل، ويبعث على الانبهار وتبديد الصور النمطية المغلوطة مع أول زيارة للسعودية اليوم، وهي تحقق جوائز التميز في الأداء الحكومي، وذلك عبر المساهمة في تمكين القطاع الخاص ورفع جاذبية سوق العمل، وتمكين جميع فئات المجتمع السعودي وضمان الاستدامة، ورفع جودة الخدمات الحكومية، والارتقاء بمنظومة الخدمات الصحية والاجتماعية ومستوى المعيشة وجودة الحياة.
خلف الصورة هناك معنى سعودي صلب، وإيمان وفخر بالذات والجميع في الداخل ممن يعيش قصة تلاحم وملحة مع الرؤية والقيادة السياسية يشاهدون رأي العين ملامح التحول الوطني الكبير، الأمر الذي يسهم في منحهم مناعة صلبة ضد حملات الاستهداف ضد بلادهم، ولا يكاد يخلو مجلس في بيت بالسعودية اليوم من الحديث عن الوطنية والاعتزاز والتطلع للمستقبل، واستخدام مفردات ريادة الأعمال، والتميز المؤسسي، وتعبيرات الرؤية، ومفاهيم الاستثمار والتطوير والإدارة الحديثة... السعودية ورشة عمل كبرى للمستقبل، حيث البحث عن المعنى يتجاوز مسألة «الصورة»!