عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

المزاد في وستمنستر

بقيت أربعة أيام عمل قبل الإجازة الصيفية لمجلس العموم البريطاني، تحول فيها أحدث مباني وستمنستر لخلية نحل: بورتكليس هاوس يضم مكاتب 213 نائباً ومعاونيهم، وقاعات اجتماعات، ومطعمين ومكتبة وكافيتريا، ومكتب البريد. كلمة بورتكليس (portcullis) دخلت الإنجليزية من الفرنسية «بورت ا كوليه»، البوابة المنزلقة في داخل القلاع، وأصبحت في القرن الـ15 رمزاً على أوراق الجمارك للدخول إلى «المملكة الإنجليزية». اليوم رمز للبرلمان مدخل قصر وستمنستر، كوصلة بين التاج والشعب برفع الحاجز لديمقراطية «العموم» لدخول «المجلس». مدخل بورتكليس هاوس أمام كوبري وستمنستر على مرسى يحمل الاسم على نهر التيمس أصبح الأشهر بين زائري البرلمان لحضور أعمال تتعلق بالدائرة، فهو الأكثر اتساعاً والأسرع لدخول العامة (بين عدة مداخل). بورتكليس هاوس مثل مجمع مستطيل يحيط بميدان متسع به أشجار فوقها قبة زجاجية وحل محل «اللوبي» المركزي، بهو مدخل كنيسة القديس ستيفين، في القصر الأصلي بين قاعتي مجلسي العموم واللوردات، لأن ميدان بورتكليس هاوس أكثر اتساعاً عندما يحضر أبناء الدائرة للقاء ممثلهم البرلماني.
تداعيات استقالة بوريس جونسون من زعامة الحزب حولت بورتكلييس هاوس إلى ما يشبه أسواق المزاد على من سينتخبه نواب المحافظين زعيماً. الاثني عشر مرشحاً قبل أسبوع اختصروا إلى ثمانية، فخمسة يوم الخميس بفضل تعديل اللوائح. غداً يبدأ نواب الحزب التصويت على ثلاث مراحل يستبعد في كل منها صاحب أقل الأصوات عدداً ليبقى مرشحان يطرح اسماهما على أعضاء الحزب على مستوى المملكة (اسكوتلندا، إنجلترا، وآيرلندا الشمالية وويلز)، والفائز بعد ستة أسابيع تكلفه الملكة بتشكيل حكومة محافظين جديدة.
رغم تعدد أروقة وحانات ومقاهي قصر وستمنستر، فإن بورتكليس هاوس أصبح ساحة نزال كلامي بين النواب وبعضهم والصحافة أحياناً أمام الكاميرات. المفارقة اتخاذ تبادلات نواب المحافظين مع الصحافيين اتجاهاً عكس المألوف.
في هذه المرحلة من اختيار زعيم المحافظين، لا يهم نوابهم تسويق سياساتهم عبر الصحافيين إلى الرأي العام، فالتصويت للزعيم الجديد ليس للشعب، بل يقتصر على نواب الحزب البرلمانيين. تأثير الانطباع عبر التلفزيون قد يستفز ناخبي الدائرة إلى إحراج نائبهم بطلبات التصويت لمرشح من تيار مخالف؛ ولذا يتجنب النواب الحديث المباشر المطول للصحافيين. فزلة لسان أو إجابة خاطئة يتصيدهما الصحافي، عن قصد مبيت أو لمجرد الفضول، والتباهي (خصوصاً الشباب قليلي الخبرة)، قد تؤدي لهبوب رياح لا تشتهيها سفينة المرشح. الطريف أن النواب «يدردشون» معنا كصحافيين هذ الأيام لاستقصاء آرائنا (والمعتاد العكس)، والقصد «التجسس» على اتجاهات المعسكر الآخر. فلكل صحافي «شلة» خاصة من النواب يتسامر معهم وبينهم ثقة متبادلة كمصادر للمناقشة في المعلومات والخيارات السياسية. الصحافيون يعرفون (من الحوار المفتوح أو الثرثرة المغلقة على أنفسهم) حسابات كل تيار ووزنه داخل حزب المحافظين. هذا التبادل يمثل أيضاً أحد أهم مفاصل الديمقراطية، في عمليات التوازن والانضباط في العلاقة المعقدة بين السلطة الرابعة والسلطة السياسية والبرلمانية؛ لكنها في مناسبة هكذا الأسبوع تتطور إلى موسم لمقايضة «الجمايل» بين الصحافيين والنواب. فعدد من النواب سيصبح وزراء في التشكيل الوزاري الجديد في الخريف، وبالتالي يكونون مصدراً مهماً للصحافي في المستقبل. وفي المقابل الصحافي بالنسبة لهم بارومتر للرأي العام، خصوصاً فيما لا ينشره، وإنما في نوعية أسئلة الصحافي وفضوله أثناء الحديث الودي أو تناول مشروب، يعرف الوزير أو المسؤول أنها ستنتقل إلى، أو تعبر عن اتجاه، قرائه ومشاهديه، إن آجلاً أو عاجلاً، وبالتالي يبلغ زملاءه وحكومته عن رد فعل الرأي العام المحتمل لسياسة معينة.
ونواب المحافظين في تقدير اختيارهم لهم حسابات متعددة؛ أهمها كريزما الزعيم الشعبية وقدرته على قيادة الحملة الانتخابية المقبلة (في 2024). ومعظم نواب المحافظين يتمحورون في تيارات ثلاثة كبيرة، وتتفرع منها تيارات أخرى.
اليمين التقليدي للمحافظين، وفيه تيار وسطي يدعم وزير المالية السابق، ريشي سوناك، الذي أدت استقالته هو ووزير الصحة السابق، ساجد جويد، إلى تساقط التأييد لجونسون كأحجار الدومينو. وسوناك (مواليد إنجلترا عام 1982 لأبوين مهاجرين من الهند وهو بالغ الثراء فزوجته ابنة ملياردير هندي) حتى الآن صاحب أكبر عدد من أصوات النواب بعد جولتين (101 صوت). داعموه يرون أنه اكتسب شعبية بفضل دعمه السخي للأسر والعاملين أثناء إغلاق وباء «كوفيد». لكنه يتعرض لانتقاد التيار اليميني، حيث يرونه «اشتراكياً» يزيد الضرائب، وسياسته أفقدت الخزانة بضعة مليارات. التيار اليميني، ثاتشري الفلسفة، يريد خفض الضرائب ودعم الفرد في مواجهة تسلط الدولة، وهو يقارب تيار استكمال «بريكسيت» واستقلال بقية قوانين ولوائح بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وتقوية التحالف مع أميركا ومواجهة الروس. وتيار ثالث ليبرالي مع التصالح مع الاتحاد الأوروبي، لكن مرشحه الباقي، توماس توغندهات، في التاسعة والأربعين، رئيس لجنة الشؤون الخارجية البرلمانية، تدعمه الصحافة الليبرالية واليسارية المسيطرة على الرأي العام، لم يتقلد أي منصب حكومي، لكنه خدم في الجيش في أفغانستان والعراق، واللجنة البرلمانية التي يترأسها متساهلة مع الإسلاميين لدرجة «السذاجة» في رأي البعض.
انقسمت أصوات اليمين الثاتشري (140) بين سويلا برافرمان (المدعي العام مواليد 1980 لأسرة هندية من مهاجري جزر موريشوس ومندبها السامي في لندن هو خالها) خرجت، من السباق يوم الخميس؛ ووزيرة الخارجية إليزابيث ترس (مواليد 1975) وتولت خمسة مناصب وزارية في حكومات متعاقبة تجعلها أكثر المرشحين خبرة؛ وكيمي بيدينوك (مواليد 1980 لأبوين من نيجيريا) وهي أكثر المرشحين اتجاهاً لليمين.
توغندهات غالباً سيخرج في جولة تصويت الغد، فتبقى مرشحة من يريدون طي صفحة جونسون: بيني موردانت، (ولدت في 1973 لضابط بحري منحها اسم مدمرته «بينولوبي») تولت ثلاث وزارات منها الدفاع. الاحتمال الأول الخيار أمام قواعد الحزب بين موردانت وسوناك؛ والثاني إذا توحدت أصوات اليمين الثاتشري (الأكثرية) على مرشحة واحدة (ترس أو بيدينوك) يتكرر سيناريو 2016: الخيار بين سيدتين.