سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

من اغتال القطار؟

ليس جزافاً، أن تحيي صحيفة «الإيكونوميست» البريطانية، قصة «قطار الشرق السريع» في ظرف شديد الحساسية كالذي نعيش، وتعرّج على تاريخ المنطقة العربية من باب سكك الحديد، التي شهدت تدميراً ممنهجاً منذ بداية القرن الماضى. قصة انهيار المنطقة العربية وتفتت نسيجها الاجتماعي، مرتبط عضوياً، بقطع شرايين التواصل ووقف القطارات، وسدّ الأفق الإنساني، والقضاء على موزاييك التعايش الديني والعرقي الممتد لمئات السنين. فقد كان المسيحيون العرب على سبيل المثال، 20 في المائة من السكان، بداية القرن العشرين، وبالكاد يصلون اليوم إلى خمسة في المائة. بالتأكيد لم يغادر كل هؤلاء بيوتهم بسبب قلة القطارات، لكنها شريان أمل، ووسيلة تلاق، وردم للمسافات، وحبل وصال.
ثمة حيوية في بعض الدول العربية لإحياء القطارات من جديد، ووصل ما انقطع، لكن الشبكة التي حرص العثمانيون على بنائها، وأهم أجزائها قطار الحجاز، كانت أول ما استهدف للإطاحة بالسلطنة ومعها كسرت بنى سياسية واجتماعية، متكاملة. الإنجليز كانوا يرون في مصر نقطة التقاء بين أوروبا والهند، فأدخلوا القطارات باكراً جداً إليها، منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، وربطوا السويس بالإسكندرية، لتشهد مصر بذلك، ولادة أول قطار في كل أفريقيا والشرق الأوسط. ولم تقصّر فرنسا من ناحيتها، في مد الخطوط بين بلدان المغرب العربي، لتسهيل حركتها الاستعمارية، لكن الخلافات البينية، قضت على وظيفتها الرئيسية.
المأساة الحقيقية، أن الحركة الصهيوينة، لم تكن وحدها التي تآمرت على سكك الحديد، ففجرت وقتلت ودمرت، لعزل فلسطين والتفرد بها. العرب أنفسهم، والمتضررون منهم بشكل خاص، لمصالح ذاتية، ضيقة أو مدفوعين من قبل استخبارات خارجية، شاركوا في تقطيع هذه الشرايين التي امتدت لآلاف الكيلومترات، وكان بمقدورها، أن تغذي الاقتصاد وتدعّم التجارة، وتخفض من منسوب الفرقة والتنابذ والعنصرية.
من يافا أو حيفا، بمركزيتهما الجغرافية، كان بمقدورك أن تستقل القطار إلى بلدان عربية كثيرة مجاورة. ومن طرابلس اللبنانية، كان الركاب يسافرون إلى فلسطين، حيث يقضي البعض سهرته ويعود، في الليلة نفسها. وإذا ما اتجه الطرابلسي بالقطار شمالاً يصل إلى سوريا وإسطنبول، ومن هناك يأخذ تذكرة بخسة الثمن إلى أي وجهة يريدها في أوروبا، حيث قطار الشرق السريع، الذي تحول إلى أسطورة، إنْ لفخامة قاطراته أو لروعة المناطق التي يمر بها.
بفضل القطار مرّت أسمهان في طرابلس، وطلبت الكمثرى والتفاح، وكتبت أغاثا كريستي واحدة من أشهر رواياتها التي تدور أحداثها وجريمتها شبه المكتملة، في «قطار الشرق السريع».
فهذا القطار الذي توقفت رحلاته عام 2009، وصل امتداده إلى لبنان ومصر وسوريا، مما قرّب هذه الدول من الغرب، فيما السكك العثمانية ربطت المدن الساحلية بالداخلية.
«كان الشرق الأوسط مكاناً لمزيج عالمي من اللغات والأعراق والطوائف، جمعتها خطوط السكك الحديدية، مثل فاكهة منوعة في وعاء»، تقول «الإيكونوميست». ولم نكن بحاجة للمجلة الإنجليزية، لنعرف أن محطات القطارات الأنيقة المبنية من حجر وقرميد، على غرار مباني الجنوب الفرنسي في القرن التاسع عشر، تحولت إلى خرب، وتطاولت الحشائش البرية حتى غطت العربات الصدئة، وصارت منازل الموظفين المهجورة دماراً، فيما القاطرات ذات التاريخ العريق الذي يعود إلى ما يقارب مائة سنة، مكاناً للذكرى والتقاط الصور وربما للتكسير والنهب. استنفرت جمعيات أهلية للحفاظ على ما تبقى، في محاولة مستميتة لإعادة هذا الإرث، وبعث الحياة فيه. في سوريا ظل القطار وسيلة للتنقل خاصة بين حلب وتركيا، فجاءت الحرب وقضت عليه، والحال نفسه في العراق، حيث تآكلت خدمات القطارات تحت وقع الهجمات.
الأهم من انتهاء أو تراجع خدمة القطارات للنقل الداخلي في غالبية الدول العربية، هو القطيعة التي تسبب فيها توقفها: «من المغرب إلى العراق ما من قطار واحد يعبر الحدود» تلك بالفعل معضلة.
ما من مواطن عربي إلا ويحلم بأن يستقل قطاراً من القاهرة، يصل به إلى عمّان أو بيروت، أو الخرطوم، وينتهي كابوس الحدود التي تحولت إلى سدود تقطع الأرزاق. في زمن الانهيارات العالمية، دول مدت جسورها صوب جيرانها بقطارات وباصات وطائرات وشرعت حدودها، ومع ذلك تتداعى. فما الذي سيكون عليه حال بلدان مزقتها مناكفات أخوية، وانتقامات حدودية وإغلاق طرق؟! التكامل وتبادل الخيرات بين الأشقاء والجيران من ألف باء، محاربة الفقر والبطالة. ثمة من يريد أن يفرض إسرائيل مستفيدة أولى من السكك الحديدية، كي تعود للحياة حديثة نابضة. إسرائيل نفسها تحضّر سككها باتجاه الأردن. لكن إيران لها مشروع هي الأخرى، باتجاه العراق وسوريا. وهي جميعها ليست مشاريع عربية الرؤية والخطة، لذلك قد تنجح والأرجح أن تفشل.
الاندماج في المنطقة له متطلبات منها القبول الشعبي بحده الأدني. لهذا ورغم أن الأعمال اللوجستية، تبدو في بعض دول المنطقة جدية لتعبر الحدود، غير أن الانتقال إلى مرحلة المواصلات المنسابة التي تبشر بانطلاقة اقتصادية عفية، ليس موعده غداً.
في جملة مفتاحية تقول «الإيكونوميست»: «سقطت شبكة السكك الحديدية، ضحية للعديد من الطعنات. ومعرفة المسؤول ومرتكب الجريمة، لا يزال أمراً يكتنفه كثير من الغموض».
من يظن أن القطار هو مجرد مقصورات تمشي على سكة حديد، فهو واهم. إنه كما شبكة الكهرباء وألياف الإنترنت والرقائق الإلكترونية، أداة مسيّسة حتى النخاع، تُبنى بقرار وتدمَّر بقرار آخر، فيما الشعوب تتفرج.