د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

شباب السودان ومناورات الساسة

كثير من صور الاحتجاجات السودانية يتم تداولها في مواقع إعلامية مختلفة. بعضها يبدو مألوفاً، حيث الحشود والأعلام والمواجهات مع جنود الشرطة وآلياتها، وبعضها الآخر يفصح عن بُعد مختلف يستحق الوقوف أمامه وتأمل ما فيه من معانٍ ودلالات. واحدة من الصور التي تلفت الانتباه نُشرت يوم السابع من الشهر الحالي لعدد سبعة من الشباب، غير محدد انتماؤهم الحزبي أو النقابي، وقد أنهكهم التعب يجلسون في دائرة على الأرض، لا يوجد مكان محدد... هل في أحد الميادين وسط الخرطوم، أم في أم درمان القديمة، أم في مدينة أخرى، المهم أنها صورة تعكس حال السودان.
واحد فقط من هؤلاء الشباب كان ينظر إلى الكاميرا بقدر الاستياء وتكاد تنطق عيناه بسؤال للمصور وكأنه يقول ماذا تفعل؟ أما الستة الآخرون فصامتون ينظرون في اتجاهات مختلفة، أحدهم فقط يرتدي حذاءً ويحمل على ظهره حقيبة ويبدو كطالب خرج من مدرسته ليشارك في الاحتجاجات، الآخرون لا يبدو عليهم سمة الطلاب بقدر ما هم شباب يملك قدراً كبيراً من الغضب والاستياء والرفض، ممزوجاً بقلة الحيلة وفقدان البوصلة، وغالباً لا عمل لهم. ومنهم من لا يرتدي ما يستر قدميه، واحدهم يعلق على ظهره قطعة قماش عليها صورة لأحد الشهداء. وفي خلف هؤلاء شباب متفرقون يسيرون في اتجاهات متباعدة، فقد عبّروا عن غضبهم وبات على كل منهم أن يذهب إلى مكان ما، إلى أن يعودوا مجدداً للتظاهر وتنفيس غضبهم وزيادة التصعيد الثوري والجماهيري حسب بيانات تحالف الحرية والتغيير، لعل وعسى ينتهي الأمر بما يسعد القلوب ويشفي الصدور وتحدث تسوية ما. أو يتطور الحال إلى ما حدث في بلد بعيد يسمى سريلانكا، التي أسقط محتجوها الرئيس، أما معاناتهم فما زالت موجودة في انتظار وعود الإنقاذ من البنك الدولي.
قضية الشباب في السودان، في لحظات الاحتجاج والغضب أو في لحظات الهدوء النسبي العابر تلخص حجم المعاناة التي يمر بها السودان منذ أكثر من أربعة عقود، فكل القوى السياسية تدعي التحدث باسم شباب السودان؛ إذ هم وقود الغضب الراهن ومستقبل الوطن إن عرف بوصلته وكيف يدير أحواله، يدعونهم إلى الاحتجاج والمطالبة بالحرية والتغيير والعدل جنباً إلى جنب الوظائف والفرص ولقمة العيش، كما يدعونهم إلى الوقوف ضد السلطة الحاكمة بمكوناتها المختلفة المدنية والعسكرية، وفي كل الأحوال توجد وعود بلا أفق محدد، رغم البيانات المكتوبة بحرفية لغوية تصدرها الأحزاب والكيانات النقابية ومؤسسات الحكم المختلفة، في حين تتراوح الخيارات المطروحة ولو نظرياً بين إسقاط المجلس السيادي، وإسقاط الدولة ثم الفوضى، أو تسوية ما عبر آلية المفاوضات الثلاثية، وتلك بدورها تواجه تحديات لا حد لها.
السودان إلى أين؟ هو السؤال الأصعب في هذه المرحلة الحرجة، فحجم المناورات السياسية، والخطوات الأحادية، يوماً في اتجاه ويوماً آخر في نقيضه، باتت هي العنصر الغالب على صفحة السياسة اليومية. فإذا كان ذلك حال الساسة المحترفين، فكيف يكون حال الشباب محدود الخبرة في الحياة والمليء بالمشاعر والإحباطات والطاقة المهدورة التي يتم استغلالها بشكل أو بآخر للاحتجاج المفتوح، وغالباً ليس لصالح لا الحاضر ولا المستقبل أيضاً.
الصورة العامة مليئة بالثغرات والخلافات والتباينات على نحو لا يستثني أحداً. مكونات الآلية الثلاثية تختلف فيما بينها حول الحد الذي تصل إليه في التعامل مع قضية الحوار السياسي. البعثة الأممية «يونيتامس» ترى الأمر واجباً، فهو من صلب التكليفات الواردة في قرار تشكيلها رقم 2524 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في يونيو (حزيران) 2020، وبناءً على طلب من الحكومة الانتقالية السودانية، لغرض المساعدة في تحول السودان إلى حكم ديمقراطي، ودعم حماية وتعزيز حقوق الإنسان والسلام المستدام. وهي مهام تعكس قيم وفلسفة الأمم المتحدة في إحلال السلام ومنع العنف، وتيسير الحلول السياسية، وأن من حقها أن تنصح وتطرح أفكاراً في العلن كما في الغرف المغلقة، وهو ما ينكره المجلس السيادي باعتباره تدخلاً في الشأن الداخلي، في حين يميل إلى تفضيل الحلول الأفريقية.
المكون الأفريقي ممثلاً لمنظمة الوحدة الأفريقية ومجموعة «إيقاد»، يرى الأمر بصورة أخرى عن رؤية البعثة الأممية؛ فالأزمات الأفريقية حلولها أفريقية، والأولوية لهما وليس للبعثة الأممية، ورغم عملهما معاً بعد وساطة أميركية - سعودية، فحجم التباين واضح ما يحد من فاعلية الدور المرغوب. وتلك بدورها ثغرة تستغل من قِبل قوى مدنية وغير مدنية سودانية. ومع ذلك فلا بديل سوى العمل معاً وفقاً للآلية الثلاثية، بشرط أن تتجاوب كل القوى السياسية والحزبية والنقابات والجيش السوداني مع ما تطرحه تلك الآلية من حوارات تيسر التفاهم على خطة خروج من المأزق الراهن، تتسم بالقبول العام والتدرج والتأييد الدولي والأفريقي، وهو الأمر الذي ينتظر محاولة للبدء، ولكن من دون أن تكون هناك أي مؤشرات تدعم نية اللجوء إلى التهدئة وإعلاء قيمة الحوار.
المدنيون الثوريون والمناهضون لحكم المجلس السيادي، وهم المكون المدني الأكثر فاعلية على الأرض، لكنهم ليسوا على قلب رجل واحد، منهم من يطرح شعار «لا تفاوض لا شراكة ولا شرعية للعسكر»، هم لجان المقاومة الأكثر كراهية لأي قدر من الثقة لمكونات الحكم القائمة. ويسير على الدرب ذاته الحزب الشيوعي الذي أبعد نفسه عن تحالف «الحرية والتغيير»، معتبراً أنه لن يقبل بأي تسوية سياسية، وأن هدفه الأول والأخير هو إسقاط «الانقلاب» عبر العصيان المدني، والنضال الجماهيري، ومُعلناً عن تشكيل تحالف جديد أطلق عليه «المركز الموحد لقوى التغيير الجذري»، يضم منظمات نقابية وحركات مسلحة لم توقع اتفاق جوبا، وسوف يشكل بدوره مجلساً سيادياً مدنياً ومجلساً تشريعياً، في حين أن ما بقي من تحالف «الحرية والتغيير» يميل ولكن بحذر شديد إلى التجاوب النسبي مع أي حوار تديره أو تنسقه الآلية الثلاثية شريطة أن يتخلى العسكريون عن الحكم، وهم لديهم تصور للعودة إلى الثكنات قُدم مكتوباً إلى القيادة العسكرية.
قرار قائد القوات المسلحة السودانية عبد الفتاح البرهان بحل المجلس السيادي المُشكل من مدنيين وعسكريين، وتشكيل مجلس أعلى عسكري يستعد لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية حال تشكيلها، مع الخروج من عملية التفاوض التي تديرها الآلية الثلاثية، يعيد تشكيل المشهد السياسي برمته، والمرجح أن تكون هناك وساطات عربية وأفريقية لتعديل هذا الموقف، والعودة إلى المفاوضات مع القوى المدنية التي تقبل بذلك، بهدف خفض مسببات التوتر والمظاهرات والاحتجاجات وإبعاد شبح المواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن ومنع سقوط الضحايا. غير أن لا شيء مؤكد، ولا أحد يضمن نتيجة ما يجتهد فيه.
مشهد سياسي كهذا كيف يستقبله شباب السودان؟ عودة إلى صورة الشباب السبعة تعطينا مؤشراً على ما قد يحدث أكثر من غيره.