د. ياسر عبد العزيز
TT

الإعلام العربي... والقصص المفقودة

حين حاول بعض الباحثين معرفة الأسباب التي أدّت إلى أن يعتقد مواطن أميركي أن «الصين تحكم بلاده»، وأن الرئيس السابق ترمب «مبعوث إلهي لإنقاذ الوضع»، وأن المسؤولين رفيعي المستوى في الحزب الديمقراطي «مجرمون يقتلون الأطفال ويشربون دماءهم»، بينما لا يعتقد جار له -يشاركه الانتماء العرقي والاعتقاد الديني- الأفكار ذاتها، بل إنه يصوّت للديمقراطيين في الانتخابات، توصلوا إلى إجابات كثيرة، لكنّ الإعلام كان على رأسها.
لقد وجد هؤلاء الباحثون أن قطاعات من المواطنين الأميركيين تم خطفهم ذهنياً، وسجنهم داخل أقفاص من الأفكار المتشابهة، التي تقود إلى تكريس معتقد واحد، من خلال قصر تعرضهم للأخبار والتحليلات على نسق إخباري محدد.
وفي المقابل، فإن هذا الجار الذي يذهب مطْمئناً إلى مراكز الاقتراع لكي يصوّت في اتجاه واحد على مدى عقود لديه كثير من الدوافع التي تقوده إلى هذا الاتجاه؛ بعضها دوافع نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية بكل تأكيد، لكن الإعلام -كما أفادت نتائج دراسات موثوقة كثيرة- يظل بين أهم تلك الدوافع.
ويمكن القول إن نطاق التعرّض الإعلامي الذي يخضع له الفرد، ويتزود بالمعارف والأخبار والتحليلات من خلاله، يشكل نسق معرفته الجوهري بالقضايا التي تقع في إطار اهتمامه، ومن ثم يؤطر قراراته المختلفة، ويدفعها في اتجاهات معينة.
لا يحدث هذا في الولايات المتحدة وحدها، ولا يقتصر أثره على الغرب تحديداً، لكنه أمر يمتد ليشمل مختلف أصقاع العالم، بصرف النظر عن النسق السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد، بما يتولد عنه من نظم وممارسات إعلامية.
ولذلك، نشأت في منتصف القرن الفائت مدرسة بحثية على هامش صناعة الإعلام، استهدفت دراسة أنماط الملكية السائدة، وأساليب السيطرة الحكومية، وآليات الرقابة الذاتية التي يلتزم بها الصحافيون وبعض وسائل الإعلام طوعاً، إضافةً إلى بحث تأثير تلك العوامل في البنى المعرفية للجمهور المسؤولة بدورها عن بناء توجهاته وصياغة مواقفه.
وكان أفضل ما توصلت إليه تلك المدرسة البحثية أن المجتمعات الغربية عموماً تعرف نوعاً من التعددية الإعلامية المحكومة والمُدارة بعناية، بحيث تعود ملكية نحو 90 في المائة من وسائل الإعلام الفعالة إلى نُخبة من الشركات، التي لا يتجاوز عددها غالباً عدد أصابع اليدين.
وقبل أن ينتهي القرن المُنصرم، نشأ ضمن تلك المدرسة تيار بحثي مُجدد، وقد ركّز جهوده على تسليط الضوء على القصص المفقودة؛ أي القصص التي تقع في نطاق اهتمامات الجمهور، وتحظى بقيمة إخبارية عالية، لكن المنظومة الإعلامية السائدة تتجاهلها بفعل التحيز أو التعتيم أو الرقابة الذاتية.
وبفضل تلك المدرسة، أضحت المكتبة العلمية الغربية، بل القارئ العادي، قادرَين على مطالعة ودراسة قوائم سنوية تحدد هذه القصص المفقودة، وترتبها تنازلياً لجهة أهميتها، كما تشير إلى الأسباب المُفترضة لتجاهلها، فضلاً عن تحقيق تلك القصص صحافياً لسد الفجوة الناجمة عن افتقادها في وسائل الإعلام الرائجة. عندما ننقل هذه الممارسة العلمية والإعلامية الناضجة إلى عالمنا العربي سنجد أن الأمور أسهل بطبيعة الحال؛ إذ مضى النصف الأخير من القرن الماضي على نسق واحد تقريباً في معظم الدول العربية؛ حيث هيمنت السلطات التنفيذية على المجال الإعلامي، وازدهرت مفاعيل الرقابة الذاتية، وفقد الجمهور آلاف القصص سنوياً.
لكن العقدين الفائتين شهدا انقلاباً مذهلاً في هذا الصدد، وسنعرف لاحقاً أن هذا الانقلاب أدى إلى تحولات حادة ودراماتيكية في كثير من البلدان العربية؛ حيث تكفّلت «السوشيال ميديا» بجبر الفجوات المعرفية الهائلة التي أنتجها الإعلام الأحادي وما تبعه من آليات تعرّض قسرية ومحدودة.
واليوم، لا يمكن القول إن النسق الإعلامي العربي يعاني مشكلة القصص المفقودة، لأن الإطار الإعلامي غير النظامي والأقل قابلية لتفعيل الرقابة بنوعيها أو الامتثال للتنظيم، أمسى قادراً على تعويض الفقد بسخاء مُفرط. وفي بلدان مثل مصر أو المغرب أو سوريا، وغيرها على امتداد المساحة من الخليج إلى المحيط، لم تعد هناك حاجة لإحصاء أو رصد القصص التي فقد الجمهور الوسيلة لمطالعتها، لأن مساراً إعلامياً موازياً سيتكفل بعرضها، وتأطيرها، وتحليل أبعادها، بل اختلاقها أحياناً من الأساس!
أما الإشكال فيتمثّل في ظن البعض أن عواراً إعلامياً يظهر في ملاحقة وسائل الإعلام «التقليدية» لـ«الترند» الذي تنتجه المنظومة الإعلامية الموازية، في حين أن كثيراً من القصص المهمة، والمُهيمنة على تفاعلات الوسائط الجديدة، لا تحظى بأي التفات من الوسائط القديمة لأسباب نعرفها جميعاً.
وبسبب قصور المنظومات الإعلامية التقليدية العربية عن معالجة مشكلة القصص المفقودة لأسباب هيكلية معروفة، تنفرد «السوشيال ميديا» بالساحة وحدها، وتظهر كبيئة أكثر تمتّعاً بالشفافية وأقل خضوعاً للضغوط، وفي ذلك خطر كبير على قدرة الصحافة -كما عرفناها سابقاً- على الاستدامة.