إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

بيكاسو في كربلاء

كان يحدثني عن متحفه للأعمال الفنية في كربلاء، وكنت أستعيد في بالي رواية أشرف العشماوي «الجمعية السرية للمواطنين». رواية تبدأ بعصابة تخطط لسرقة لوحة «زهرة الخشخاش» للرسام الهولندي فان غوخ من متحف محمود خليل في الجيزة. من يحمي مقتنيات متحف صلاح حيثاني من السرقات، بينها أعمال لبيكاسو وسلفادور دالي وخوان ميرو؟
لا غريب في العراق، هذه الأيام، ولا عجيب. مع هذا يبقى من المدهش افتتاح متحف للفن المعاصر في كربلاء، مدينة المراقد وحاضنة ضريح الإمام الحسين. أما كان الأنسب تشييده في بغداد؟ يجيب صلاح حيثاني، ابن المدينة، أن لكربلاء جوانب مدنية إلى جانب بعدها الديني. وهي ذات تاريخ سابق على الإسلام. لها حدود مع بابل والنجف والأنبار. تمر فيها شبكة من الأنهار ومشاريع الري الآشورية التي ذكرها العلامة أحمد سوسة في كتاب «تاريخ العراق من خلال مشاريع الري القديمة». كما أن وجود العتبات يعزز من أهميتها. يتحدث حيثاني عن سياحة دينية كبرى تصل إلى ثلاثين مليون زائر في عدة مناسبات من العام. وعن واحدة من أجمل الواحات التاريخية في الشرق الأوسط وأكبرها، شفاثا التي يسميها الأهالي عين التَمر. واحة تقع إلى الغرب من كربلاء، تنتشر فيها آثار من كنائس قديمة ودور عبادة يهودية. وفي كربلاء قصر «الأخيضر»، أكبر صرح صحراوي من نوعه، زاره المستشرق الفرنسي ماسينيون وكتب عنه.
كل هذا كوم واقتناء أعمال كبار الفنانين كوم آخر. من أين لك هذا؟ إن صلاح حيثاني شاعر في الأساس، خرج من العراق في ظرف قاهر. وصل إلى هولندا وتردد على جامعة لايدن العريقة من دون أن يكون طالباً فيها. يقود دراجته الهوائية لمدة ساعة كل يوم ويغرق في المكتبة وبين المخطوطات. وفي تلك الفترة أصدر بمجهود فردي مجلة «واحد» التي كتب فيها عبد الرحمن منيف وهادي العلوي ومحمد بنيس وكاظم جهاد وسركون بولص.
تم قبوله في الأكاديمية الملكية في لاهاي لدراسة الفن. وراح ينظم معارض لفنانين عرب في صالات المدينة. وتتجمع لديه لوحات من أصدقائه العراقيين، سيكون بعضها نواة لمتحفه الذي افتتحه في كربلاء عام 2019، وطوال سنوات كان الطالب العراقي يتولى جرد مكتبات بعض المستشرقين وفهرستها. لا يطلب مقابل عمله الشاق مالاً بل يطلب نسخاً من الكتب المكررة وأعمالاً فنية. جمع وبادل وقايض واقترض من المصارف. اقتنى ما توفر له من لوحات ومخطوطات. وهو ما زال يسدد القروض وينفق على متحفه من عمله في مؤسسة ثقافية إماراتية.
في المتحف أعمال لبيكاسو ودالي وشاغال وماتيس وليجيه، أغلبها محفورات مرقمة وممهورة بتواقيعهم. ومجموعة كبيرة من أعمال فناني تجمع «كوبرا» الشهير. وهناك أعمال من «البوب آرت» لآندي وارهول وكوستابي وليخنشتاين، ولوحات زيتية لفنانين مستشرقين ومنحوتات برونزية ومصورات نادرة يعود بعضها إلى القرن الثامن عشر، إلى جانب كتب محفورة على المعدن والخشب والحجر من فترات أقدم، وأقنعة أفريقية ومنحوتات طقسية والمئات من قطع السجاد اليدوي. تحف جمعها صاحبها على مدى ثلاثين عاماً، ومخطوطات تشتمل على مصاحف ورسائل في التصوف والفلك واللغة والفلسفة، ولفائف يزيد طول بعضها على عشرة أمتار.
يقول صاحب المتحف، إنه مشروع للعراق ومن يبتغون وجه العراق. متحف مفتوح مجاناً للزوار، من دون مساعدة من الحكومة المحلية أو المؤسسات الثقافية. كيف يحمي مقتنياته في بلد يصول فيه اللصوص ويجولون؟ تلك حكاية أخرى. ولعل الفنون في مفهومهم سقط متاع.