خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

العالمانية مدخل لإنقاذ المجتمع والدين

«الموت الأسود» عبارة تشير إلى داء الطاعون الذي قضى على ثلث سكان أوروبا أو يزيد في القرن الرابع عشر الميلادي. الوفيات وصلت في بعض مناطق حوض المتوسط إلى ثلاثة أرباع السكان. وأدى «الموت الأسود» إلى آثار كبرى على الحالة الاقتصادية وخريطة الثروة، وأيضاً على الحالة الدينية.
لم يكن لدى المجتمعات الأوروبية، إن مرت بأزمة، من ملجأ سوى رجال الدين. إياهم يُسألون في الطب، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي الاقتصاد، وفي شؤون الحرب والسلام. هذه مهمة عظيمة، وسلطة كبرى، إن حصلتَ عليها دان لك الناس. لكنها أيضاً مسؤولية كبرى، إن أخفقت فالعاقبة ضخمة.
في حالة «الموت الأسود» لم يملك أحد في ذلك الزمن إجابة عن السؤال. التفسيرات الدينية التي أعطيت للكارثة لم تفلح في وضع حد لها. الغضب الذي توجه نحو يهود، وأحياناً نحو نساء، لم يفلح في وضع حد لها. والنتيجة أن التغيرات الناتجة عن المرض الأسود طالت وضع رجال الدين في أوروبا أيضاً، وصولاً، في القرون اللاحقة، إلى الصدام الكبير مع سلطتهم، ومع نسخة الدين التي قدموها، التي احتكرت سلطة تقديم الحلول، ثم لم تسعفهم في الأزمة.
التقدم العلمي الضخم الذي واكب هذه التغيرات اللاحقة انتزع من سلطة رجال الدين، نعم، لكنه أيضاً ساهم في إعفائهم من المسؤولية. ضيق مسؤولياتهم إلى مساحة ومنطقة يمكنهم تغطيتهما. الفترة التي تمسك فيها رجال الدين بسلطتهم رافضين التغيير شهدت أكبر هزائمهم. ولم تتوازن الأمور أخيراً إلا بإدراكهم لهذه الحقيقة. وتصالحهم معها. وكفهم ألسنتهم عن الخوض فيما لا يعلمون أو الادعاء بأنهم يملكون له حلولاً.
أريد أن أقول إن التطور العالماني، الأرضي، كان في صالح الدين القائم. في صالح احتفاظه باسمه، وبمبادئه العليا، وفي صالح تطويره وإلا تجاوزه الزمن ولحق بأديان سابقة ضاقت على جسد البشرية النامي. هذه حقيقة لا يدركها للأسف كثير من رجال الدين في منطقتنا. بمعنى أدق ليس لديهم الدافع الكافي لإدراكها، بسبب شعورهم المفرط بالأمان في موقعهم. وهو شعور مضر في السياسة والاقتصاد، لا ينبغي منحه لأي مهنة.
أحد الأسباب أن سهولة تناقل ثمار التقدم العلمي بين الدول والمجتمعات أعفاهم من مواجهة اختبار كبير كالذي واجهه رجال الدين في أوروبا. وشجع المجتمع على التغاضي عن التناقضات بين ما يدعون الناس إليه وما يختارونه لأنفسهم لو وضعوا في الموقف نفسه. أحد رجال الدين المشاهير عارض عمليات نقل الأعضاء، أو غسيل الكلى، باعتبار أن جسد الإنسان ليس ملكاً له، وباعتبار أن التصرف التقي الصحيح في حالة المرض الشديد هو التسليم. لكنه، إذ تعرض لاختبار المرض، يسافر إلى أوروبا لكي يعالج بأكثر التقنيات تقدماً. لو أننا في مجتمع محروم من ثمار العلم الطبي، ورأى هذا التصرف، لانقلب على رجل الدين هذا بدل الاستمرار في تبجيله.
سهولة تداول ثمار العلم مكنت رجال دين من الاستمرار في الإبقاء على نسختهم القديمة. لكنها ليست السبب الوحيد. الاشتغال بالدين في العصر الحالي وظيفة سهلة للغاية. إحدى مهن قليلة تؤمن لصاحبها القدرة على تجاهل المتطلبات التنافسية الصعبة لسوق العمل الحالي. يفتح هذا المجال لأكثر العقول كسلاً للحرص على العمل فيها.
وهذا العامل يساهم في إصرار مشتغلين بمهن أخرى على الإبقاء على القديم. خذ الصحافيين مثلاً. الصحافيون التقليديون في العالم كله يفقدون الآن وظائفهم بإيقاع لا يمكن الاستهانة به بسبب ثورة الديجيتال. من لم يستطع خلال السنوات الخمس عشرة الماضية أن يطور من مهاراته لكي يواكب متطلبات السوق فقد وظيفته أو يوشك. لكننا لا نزال نرى في منطقتنا أفعالاً تسير عكس الزمن. منها أن نقابة الصحافيين المصرية تشترط عمل الصحافي في جريدة ورقية (ولو صورياً) لكي يحصل على حق الانتساب للنقابة. ويحصل على مكافأة شهرية تحفيزية مقدمة له من وزارة المالية. ما هذا؟! ما دافع تحفيز الإبقاء على القديم؟ هناك إذن عامل جوهري، في العقلية الاقتصادية السياسية، نستطيع أن نتتبعه من أول رجال الدين إلى الصحافة إلى موظفي الحكومة، ونستطيع من خلاله أن نتوقع المجتمعات التي تتحول إلى جنة لأصحاب المهن التي تستطيع أن تتجنب التحديث، وتخلق معاً قوة تسحب المجتمع كله إلى الخلف.
التطور العالماني، علمياً واقتصادياً، باب حتمي لتغيير هذه العقلية. لا أقول إنه كاف وحده لتغييرها، فربما تحل محل الحلول الدينية للاقتصاد حلولٌ أخلاقيةٌ له. وهي جريمة اقتصادية واسعة الانتشار في الخطاب الاقتصادي لدول الإعالة الاجتماعية، مطلية بكلمات جميلة مختارة بعناية.
العامل الثالث الذي يساهم في استمرار وضع كهذا هو الإرهاب. وأنا هنا لا أقصد الإرهاب بمعنى حمل السلاح، بل الإرهاب بمعنى التخويف بحَمَلة السلاح أو دعمهم معنوياً. وهي جريمة لا تواجه بما يكفي من الإدانة في بنيتنا التشريعية الحالية. كارثة أخرى يستطيع رجل دين أن ينجو بها. سيقدم نفسه مدافعاً عن «دين الله» وأحكامه. لكنه في الحقيقة يعرف أن سلاح المجرمين باسم الدين، بدون التورط به، يبقيه في مكانه، ويعزز حظوظه. ويخيف المنادين بتحديث الخطاب الديني وتطويره.
هذا أيضاً له شبيه في عالم المهن غير الدينية، كما رأينا من تيارات سياسية تقدم غطاء لـ«خصومها» من الإسلامجية، وتستفيد من هذه الصداقة في إرهاب خصومها في قضايا سياسية. تيارات غنت قديماً لقاتل السادات، وغازلت حديثاً إرهابيين تحت اسم «المقاومة». شيء شبيه بسلوك بعض أبناء الأسر المهذبة من المراهقين، الذين يحرصون على إعلان صداقتهم ببلطجية لكي يكسبوا من هذه الصداقة رهبة لدى أقرانهم، من دون أن يفقد أحدهم نظافة يده أو يلوث ياقة قميصه المدرسي الأبيض.