أحمد محمود عجاج
TT

إردوغان وحلف الناتو: سياسة اللعب على حافة الهاوية

أهم شيء في السياسة هو اقتناص الفرص، وإردوغان أثبت أنه قناص، وما نشاهده من نبرة صوته العالية ضد قبول فنلندا والسويد في حلف الناتو، دليل على طموحه لقطف الثمار، التي اعتاد عليها خلال رحلته الطويلة في السلطة. ولكيلا لا ننكر دهاءه وتقلباته ما علينا إلا أن نراجع انعطافاته الأخيرة في المنطقة؛ تحوَّل في لحظة من معادٍ إلى حليف، ومن مناهض إلى مؤيد، ومن عدو لإسرائيل إلى مرحب برئيسها؛ كل ذلك خلال شهور، وبالذات عندما أدرك أن سياسة المواجهة أصبح مردودها سيئاً، وضاراً له ولبلاده. الآن لحُسن حظه تسنح له فرصة ثمينة لصفقة مع حلف الناتو تنقذه من ورطة داخلية وخارجية.
عند بدء الحرب الروسية ضد أوكرانيا شعر إردوغان بأن ثمة خطراً يتهدده لأن أوكرانيا تشكّل عمقاً له، ومكاناً استراتيجياً، ومنطقة اقتصادية مهمة؛ وأدرك أيضاً أن روسيا هي الأخرى مهمة له وأن ما عقده من صفقات معها لضمان توازنات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يجب ألا تختل بسبب موقفه من أوكرانيا؛ فدعم أوكرانيا بالأسلحة ولم يؤيّد غزو روسيا لها إنما قدم نفسه وسيطاً نزيهاً، فدعم أوكرانيا بالسلاح ضمن حدود، وأيّد مخاوف روسيا، ودعم الحل السلمي لحفظ مصالح الجميع. هذا الموقف جرّ عليه رضا الولايات المتحدة، وإعجاب دول أوروبية شرقية، وموافقة متواضعة من الاتحاد الأوروبي. لكنه بلحظة غيَّر البوصلة عندما شعر بأن ثمة فرصة أخرى لاحت عند تقديم فنلندا والسويد طلبَي العضوية للاتحاد الأوروبي؛ أعلن فوراً رفضه لهذا الانضمام، وعرض أسبابه الضيقة، فنال إعجاب الرئيس الروسي بوتين، وأربك حليفه الأميركي والأوروبي، لكونه تحول فجأة إلى معارض لمصالح الحلف، وحريص على مصالحه الضيقة لتكون فوق مصالح استراتيجية لثلاثين دولة في الحلف.
هذا الانتقال من مهادن للحلف، ومؤيد لتوجهاته ضد روسيا، إلى معادٍ شرس لتوسيعه، لا مبرر له ما دامت التوسعة لا تضر تركيا لا من قريب ولا من بعيد؛ لكنّ هذا لا يهم لأن إردوغان يريد أن يستثمر تلك الحاجة الملحّة للحلف، ورغبة الانضمام من فنلندا والسويد، للحصول منهما ومن الحلف على تنازلات استراتيجية تحل مشكلته الداخلية، وتعزز رصيده الخارجي؛ لذلك رفض إردوغان خلال اجتماع سفراء الناتو مناقشة طلب الانضمام وبذلك سيتأخر البت بطلب الانضمام على الأقل لأسبوعين، وسيفتح ذلك الباب أمام مفاوضات دبلوماسية بين تركيا وأميركا والاتحاد الأوروبي وفنلندا والسويد؛ في هذه المفاوضات سيكشف إردوغان عمَّا يريده لكي يسحب اعتراضه؛ وما يريده كثير لكن هذه الكثرة مقصودة بهدف الحصول على الأهم منها وهو تمكينه من حل مشكلة الاقتصاد التركي والمهاجرين السوريين، وكلتاهما مشكلة سيؤدي حلها إلى نجاحه في الانتخابات البرلمانية القادمة في عام 2023. إردوغان وضع لائحة بالمظالم وما يقابلها من مطالب؛ من المظالم أن فنلندا والسويد هما معمل لتفريخ جماعات إرهابية ضد تركيا، وأن نحو 30 إرهابياً مطلوبين لتركيا من الأكراد وجماعة غولن، وأن فنلندا والسويد فرضتا حظراً على مبيعات الأسلحة لتركيا بسبب هجومه على الميليشيات الكردية في سوريا؛ هذه المظالم يدرك حلف شمال الأطلسي وبالتحديد أميركا أنه لا بد من مناقشتها ويعلم أعضاء الحلف أن الرئيس التركي يفاوض بعناد ويزداد عناده كلما شعر بأن وضعه أقوى، ويطمح لأن يأخذ أكبر قدر ممكن؛ لذا فإن المظالم ليست هي الأهم على أجندته بل الاقتصاد واللاجئين. فإردوغان يعرف صعوبة الاستجابة لتلك المظالم للتعاطف الكبير في الدولتين الاسكندنافيتين مع الأكراد، ومدى اعتزازهما بالاستقلال، وشعورهما أنهما الضمير الأخلاقي للعالم الحر؛ ولذا فإن البديل هو خيار آخر قد لا يجد ممانعة إنما قد يثير امتعاضاً؛ هذا البديل هو دعم الاقتصاد التركي من خلال تدعيم الليرة التركية ثم البحث مع أعضاء الحلف في حل مشكلة اللاجئين التي تضر بالأمن التركي، وبالأمن الأوروبي؛ هذا الحل لطالما سوَّق له الرئيس التركي: إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا. هذه المنطقة الآمنة تحل مشكلته ومشكلة اللاجئين، وتعطيه ورقة كبيرة تؤثر على مستقبل التسوية في سوريا وتنعش الاقتصاد مجدداً؛ كذلك ستضعف المنطقة الآمنة النفوذ الروسي والإيراني، وتخلق توازنات جديدة في الأزمة السورية؛ لكنّ الجانب السلبي فيها إضرارها بالأكراد إذا لم يرفق ذلك بحل معقول للأزمة السورية وموقع الأكراد منها. هذا الحل يمكن إيجاده، إذا ما تضافرت النيات، وقلل الأتراك من سقف مطالبهم.
يدرك معارضو إردوغان في الداخل التركي أن موافقة الحلف على صفقة مع إردوغان سيجعل عودتهم للسلطة في الانتخابات القادمة أمراً مستحيلاً، ولذا فإن بعضهم فضّل على مضض السكوت بينما عبّر الآخرون عن تأييدهم للناتو ولانضمام فنلندا والسويد؛ لكنّ هذه المعارضة التركية لن تؤثر في إردوغان، فهو مفاوض عنيد، ويعرف أنه ليس لديه ما يخسره، ويدرك أن الحلف يحتاج غليه أكثر من أي وقت مضى؛ لذا فإن إردوغان سيمارس أسلوبه المفضل وهو اللعب على حافة الهاوية، كاشفاً أنه يفضّل غضب أعضاء الناتو على التضحية بمصالحه؛ وهكذا يظهر بمظهر الوطني والقائد القوي الذي يضع مصلحة بلاده فوق كل اعتبار. لكن إردوغان يدرك أن التشدد له حدود، وهو بارع في تلك اللعبة لأنه مدرك مدى حاجة الغرب إليه في ظل المواجهة العلنية مع روسيا والمستترة مع الصين.
ولكي لا نذهب بعيداً في التنبؤ فإن إردوغان من المؤكد أنه وضع في حساباته احتمالات رفض مظالمه ومطالبه، لكن ما لم يضعه هو استحالة أن يخرج خالي اليدين منها؛ لذلك فإنه سيتابع لعبته المفضلة بالتصعيد والتحدي إلى أن يحصل على شيء، وإذا لم ينل الحد الأدنى فإنه سيصعّد خلافه كما اعتاد، وعندها سيضطر الحلف، وفق منطق الموازنة، إلى إرضائه ولو بالقليل.