حنا صالح
كاتب لبناني
TT

لبنان: قوى التغيير الفائز الرئيسي!

تغيرت لغة الناس في بيروت وكل لبنان، وفي كل مكان تتردد كلمة كان فينا أكثر! في الشارع، في المقهى وأمكنة العمل، استعاد الناس مناخ ثورة «17 تشرين»، فتراجع الوجع المقيم أمام بسمة أشرقت على وجه لبنان. وصارت تسود لغة ومفردات لم تكن مألوفة، عن الحقوق والمحاسبة، بعدما كرّست الثورة الناس لاعباً سياسياً، فكانت ثورة الصناديق، برفض الابتزاز والترهيب وكسر «المال السياسي»! وسقوط أكثرية «حزب الله» السابقة التي تراجعت من 73 نائباً إلى 60 فقط، مما أعاق مخطط إلحاق لبنان بإيران الكبرى!
في برلمانيات 2022 يوم 15 مايو (أيار)، اقترع 330527 لبنانية ولبنانياً لقوى التغيير، أي نحو 17 في المائة من إجمالي الناخبين. اقترعوا للبديل الذي قدمته الثورة، لأنهم وجدوا في المرشحين من يشبههم، وتوسموا فيهم البديل عن أولئك الذين أوصلوا البلد إلى الجحيم. اقترعوا لمرشح وقف بالصف ينتظر دوره كي يقترع كما هو المفروض. وشاهدوا مرشحين حققوا أرقاماً قياسية مثل إبراهيم منيمنة في بيروت مع 13281 صوتاً تفضيلياً، الأول بين السنة الفائزين، يصل إلى مركز الاقتراع على الأقدام «دون طبل ولا زمر». وفي الأقضية الشمالية الأربعة، حيث التطاحن على أشده بين مرشحي الرئاسة باسيل وجعجع وفرنجية، أوصل الناس عن زغرتا ميشال الدويهي الأستاذ في الجامعة الأميركية وهم يعرفون أنه حفيد «كندرجي»!
مع الفوز المبهر لكوكبة من النواب المنتمين إلى ثورة «17 تشرين»، 17 نائباً، ممن يشبهون مواطنينا، وليس بينهم أنصاف آلهة تقدمت مسيرة التغيير. هم نواب أتوا من تحت إلى فوق، اختارهم الناس كمرشحين، بعد استفتاء على الأسماء في البلدات وشوارع المدن وساحاتها، ولم تكن صدفة أن من اختارهم الناس كانوا ممن افترشوا ساحات تشرين، ولم يغادروا الساحات منذ «انتفاضة النفايات» في عام 2015! بمقابل عادة مقيتة تقوم على أن يختار «الزعيم»، مرشحين تابعين لشخصه فيمنح الأولوية للتوريث، ومراكز لـ«بكوات» متقدمين في الولاء، مع التطعيم بأثرياء حرب وتهريب يشترون المقاعد من أجل الحصانة! أحدهم عصام صوايا النائب عن جزين عام 2009 اشترى مقعده من العماد عون، ولم يعرف له الناس صورة، ولم يشارك في أعمال البرلمان، لأنه غادر لبنان فوراً متأبطاً حصانة نيابية «تفيده» في «أنشطته» المالية في أميركا!
مفيد قراءة الأرقام كما التوقف أمام المنحى والتوجهات. فقوى التغيير حلت في المكان الأبرز شعبياً وحصدت ناخبين من كل طوائف ومناطق لبنان، إذا ما أُضيف إليها التقاطع مع طيف من المستقلين، ترتفع نسبة المقترعين إلى أكثر من 23 في المائة والنواب إلى 26 نائباً، أو 22 في المائة من إجمالي النواب.
بالتوازي أصابت الانتخابات أطراف نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي بجروحٍ ثخينة. صحيح أن «حزب الله» حقق الرقم الأعلى مع 347 ألف ناخب ونحو 18 في المائة من الناخبين، لكن الثمن كان كبيراً. إلى القانون الهجين المفصل على مقاس طموحاته، وإقفاله مناطق هيمنته بعد وضعه الانتخابات في سياق «حرب تموز سياسية» ليخوّن المرشحين ضده، ومنعه بالبلطجة كل أشكال الحملات الانتخابية للمناوئين من قوى التغيير، وطرد ألوف المندوبين من أقلام الاقتراع، إلى «المساعدات» التي طالت نحو 300 ألف أسرة وفق تقرير «لادي» (الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات)، لم يتمكن من حماية «حلفائه» من «ودائع» النظام السوري. خُرقت لائحته في دائرة الجنوب الثالثة أمام قوى التغيير، فكان السقوط المدوي لكل من أسعد حردان ومروان خير الدين، وأُسقط نائب رئيس مجلس النواب الياس الفرزلي في البقاع الغربي، وكذلك فيصل كرامي في طرابلس، وطلال أرسلان في الجبل وأبعد معه وئام وهاب، وكل هؤلاء سقطوا أمام قوى التغيير. ولولا الترويع والبلطجة والتلاعب بالصناديق لكانت اختلفت النسب مع قوى التغيير ومثلها المقاعد!
ولئن نجح «حزب الله» في مدِّ تيار رئيس الجمهورية بعدد من النواب لأنه بأمسّ الحاجة لهذا الغطاء ولو كان بالياً، فقد تراجعت الكتلة النيابية للتيار من 29 نائباً إلى 18 مع نحو 142 ألف صوت، أي أقل من 7 في المائة من الناخبين، وتراجع التيار العوني شعبياً من الموقع الثاني إلى الخامس رغم الضخ الذي وفّره له «الحزب». لكن ما لا يمكن القفز فوقه أن نسبة معتبرة من المقترعين تقليدياً لـ«حزب الله» امتنعت احتجاجاً، محملة هذه الجهة المسؤولية عما آلت إليه أوضاع البلاد... لكنها لم تنتقل إلى قوى التغيير إلا بنسبة محدودة.
وحقق حزب «القوات اللبنانية» ارتفاعاً في نسبة المقترعين إلى نحو 190 ألفاً، أي 10 في المائة من المقترعين وفي الموقع الثالث بعدما كان في الرابع. وكان لتحالفه مع حيثيات مناطقية أثره فارتفع العدد من 15 نائباً إلى 18، لكن نظام «الصوت التفضيلي» الذي هو مذهب الانتخابات وتتمسك به «القوات» بوصفها من صنّاعه، جعل تقدمها بطعم المرارة عندما أفقدها أحد مقاعد بشري، عرينها التقليدي، بعدما كانت تحافظ عليه منذ عام 2005! وحلت حركة «أمل» في الموقع الرابع مع نحو 170 ألفاً، وخسرت مقعدين من 17 نائباً إلى 15... فيما بلغت حصة «الاشتراكي» نحو 75 ألف صوت في الموقع السادس بنحو 4 في المائة بقليل، وخدمته لعبة الصوت التفضيلي فحافظ على كتلة من 9 نواب. أما «المردة» ورئيسه مرشح الرئاسة فرنجية فتراجع إلى الموقع السابع مع أقل من 18 ألف صوت ونائب واحد، والمركز الثامن لـ«الطاشناق» الأرمني مع نحو 13 ألف صوت و3 مقاعد! وفاز «الأحباش» و«الجماعة» بـ3 مقاعد، وتوزعت قوى مختلفة نحو الـ20 مقعداً!
سقطت رؤوس وأبعدت زعامات وبات النواب الجدد نحو 55 في المائة، وكان اللافت الموجة الشبابية غير المسبوقة في الداخل والمغتربات التي دعمت القوى التشرينية. لكن الموضوعية تقتضي القول إن مسيرة التغيير التي تقدمت طويلة وصعبة. الأسابيع القليلة ستشهد احتدام الصراع حول رئاسة البرلمان وبعده التكليف لرئاسة الحكومة. وإذا كان محسوماً أن التغييريين لن يقترعوا لبري، فالانتخابات أعادت بعض التوازن إلى البلد وخربطت تقسيمات التمثيل الطائفي، والأكيد أن قوى «نظام المحاصصة» ما زالت قوية وإن أرعبتها النتائج. لكن قلب نظام المحاصصة مسار طويل، فيما المؤكد أنه لم يعد قادراً على الحياة، وذهاب البرلمان الحتمي إلى خطوات إصلاحية سيطيح به ولن يستمر الدستور معلقاً ولا عودة إلى دجل حكومات الوحدة الوطنية!
لبنان آخر تبين أنه ما زال ممكناً، لبنان تليق الحياة بأهله وجد الفرصة، والمعبر هو التعافي الوطني والسياسي واستعادة السياسة كما يركز دوماً ميشال الدويهي. لأول مرة هناك قوة نيابية غير ممسوكة، لكنها متماسكة حول رؤى تغييرية، ستستعيد الدستور والقرار لتُستعاد الدولة المخطوفة... وإذا كان من الأولويات مع ضمان الرغيف والدواء تحرير وسط بيروت برفع جدران العار، وطرح حل ميليشيا البرلمان ومحاسبتها لأنها أداة قمع فقأت عيون مئات الثوار... فإن إعلان نصر الله أن النتائج تحققت رغم السلاح، وتشديده على تنحيته، فإن هذا الملف الصعب مفتوح، ولا بديل عن بسط السيادة دون شريك وحماية الحدود والثروة واللبنانيين، وكل ذلك أولوية الجيش والأجهزة العسكرية والأمنية اللبنانية.