جمال زقوت
TT

فشل نظرية تقليص الصراع

ينطلق البرنامج الحقيقي لحكومة بينيت من اعتقاده بأن احتواء وتطويع السلطة الفلسطينية وحركة حماس، عبر تكريس ضعف الأولى واحتوائها، وتطويع الثانية وتمكينها كسلطة أمر واقع لتعميق حالة الانقسام، وتفتيت قدرة كل منهما على إمكانية التحوّل إلى كيانية موحدة، وأن مثل هذا الاحتواء والتطويع سيجعل بينيت قادراً على الاستفراد بالشعب الفلسطيني، الذي يتعمق شعوره بالإحباط جراء انشغال ممثليه المنقسمين في الصراع على شرعية تمثيله، وعدم اكتراثهما لمعاناته، وأن يفرض عليه الاستسلام والقبول بالأمر الواقع الاحتلالي، تمهيداً لتصفية حقوقه الوطنية.
صعود بينيت الذي جاء بالصدفة رئيساً لحكومة الاحتلال، وكنتيجة حتمية لأزمة النظام السياسي في إسرائيل، ليس فقط جرّاء ما اعتبرته الأحزاب الإسرائيلية من خطر على ديمقراطيتها الزائفة بفعل «ديكتاتورية» نتنياهو وانفراده بالتحكم في مستقبل إسرائيل والسيطرة على مكونات سلطاتها، بقدر ما هي أيضاً انعكاس لمأزقها التاريخي الناجم عن الإمعان في إنكار جذور المسألة الفلسطينية وحق شعب فلسطين في تقرير مصيره، وتدمير إمكانية تطبيق ما كان يسمى حل الدولتين، والإصرار على التعامل مع مستقبل الشعب الفلسطيني في هذه البلاد كقضية إسرائيلية داخلية، حيث بات المستوطنون يتحكمون في واقع ومستقبل هذا النظام بفعل الانجراف الواسع للمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واليمين المتطرف، ومع رفضها العنصري لإمكانية الذهاب نحو حل الدولة الواحدة، فهي ترفض حتى مساواة مواطنيها العرب الفلسطينيين مع مواطنيها اليهود، وبذلك تقرر إسرائيل فتح أبواب الصراع ودائرة العنف على مصراعيه من خلال إطلاق يد غلاة المستوطنين، وتعليمات إطلاق النار على المواطنين الفلسطينيين من قبل جنودها الذين بات أكثرهم في الضفة من المستوطنين.
يبدو أن بينيت، ولتثبيت سلطته الهشة من يومها الأول، قد وجد ضالته في نظرية ميخا چودمان حول ما بات يعرف بتقليص الصراع، والتي تنطلق أساساً من إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه، واستبدال التقدم بسلسلة من الحلول الإدارية والمدنية والاقتصادية بذلك، مقابل إبقاء السيطرة الإسرائيلية تمهيداً لضم ما يعرف بمناطق «ج» إلى السيادة الإسرائيلية، والتي تشكل حوالي 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية من دون القدس الكبرى التي تعتبرها حكومات الاحتلال جزءاً لا يتجزأ من أرض إسرائيل.
وهذا ما يفسر أنه بالقدر الذي كانت إسرائيل تسير بثبات نحو منظومة ما يُسمى بالتسهيلات التي تقدمها عبر السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، كجزء من تلك النظرية، وبما يشمل ادعاء حرصها على تقوية السلطة ومكانتها في مواجهة حركة حماس، في وقت كانت تسعى لاحتواء السلطة من خلال تعزيز دور القائمين على التنسيق الأمني معها في محاولة للهيمنة على هذا الدور وعزله عن مضمونه الوطني ومحيطه الشعبي، وبشكل متوازٍ أبقت استراتيجيتها نحو غزة تدور في إطار تعزيز الانقسام، وتقديم رشى ما يعرف بخطة لابيد «الأمن مقابل الاقتصاد» والتي لا تبتعد عن نظرية تقليص الصراع في الضفة الغربية، بل تكملها، بهدف تمزيق وحدة الضفة والقطاع، ومنع بلورة أي كيانية وطنية موحدة، واستمرار الاستفراد بالضفة الغربية لجهة ضم ما يسمى مناطق ج، والمضي بتهويد القدس وفرض السيادة الإسرائيلية عليها وعلى مقدساتها .
فشل إسرائيل السياسي والأمني في تقدير حقيقة موقف الشعب الفلسطيني ليس جديداً، فهو الفشل نفسه الذي عاشته حكومة الاحتلال عشية اندلاع الانتفاضة الكبرى عام 1987، عندما اعتقدت أن الوفرة المالية واستيعاب مئات آلاف العمال في سوق عملها، سيكون بديلًا للفلسطينيين عن التمسك بمسألة مقاومة وإنهاء الاحتلال، لا سيما بعد إخراج قوات الثورة من لبنان عام 1982. إلا أن الشعب الفلسطيني، ورغم حالة الوهن والتفكك الراهنة في أوساط نخبه الحاكمة ومجمل حركته الوطنية، ظل متمسكاً بحقوقه، وفي مقدمتها حقه في البقاء على أرضه وحقه في تقرير مصيره، بل لعل حالة الوهن والتفكك تلك دفعت الشعب الفلسطيني لأخذ زمام مبادرته بيده، الأمر الذي جعل من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ومعها منظومة التنسيق الأمني عاجزة عن الكشف المسبق وإحباط تنفيذ مثل هذه العمليات، وسيظل هذا الفشل قائماً ما بقيت إسرائيل حبيسة حلولها الأمنية وأسيرة عنصريتها وضحية فائض القوة لمؤسساتها الأمنية والعسكرية، وتمعن في رفض الاعتراف والتسليم بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وما تتطلبه من حلول سياسية جوهرها إنهاء الاحتلال العسكري والاستيطاني، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في تقرير مصيره.
إن رضوخ حكومات إسرائيل لليمين الديني المتطرف، وإصرارها على انتزاع القدس من محيطها الفلسطيني، والمضي في تغيير طابعها الديموغرافي والجغرافي وطمس معالمها الفلسطينية العربية، والسيطرة بل السيادة على المقدسات الإسلامية والمسيحية، بدءاً بالأقصى دون استثناء كنيسة القيامة، وما يعنيه ذلك من دفع الصراع نحو صراعٍ دينيِّ لا يمكن السيطرة عليه، أو إيجاد حلول له. كل ذلك وغيره من الممارسات الاحتلالية، أشعل الضوء الأحمر أمام جميع الفلسطينيين الذي يعتبرون هذه المقدسات جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الوطنية، وصراعهم المستمر من أجل تجسيد كيانهم السياسي، هذا بالإضافة إلى استشعارهم الخطر الوجودي على حقهم في البقاء في بيوتهم المقدسية. فمن يتجرأ، من وجهة نظر المقدسيين وعموم الفلسطينيين، على المسجد الأقصى ومكانته التي تربطها علاقات روحية وإيمانية مع ما يزيد على المليار مسلم، لن يوقفه أحد، إن تمكن من ذلك، وبالتالي سيواصل التجرؤ على تهجيرهم واقتلاعهم، وحتى هدم بيوتهم.
هذه هي الرسالة التي قرأها أهل بيت المقدس، وهو ما يفسر تقدمهم على نخبهم الحاكمة المنقسمة كجزء من استعادة الدور الجمعي للنضال الوطني والذي يشكل موضوعياً الوجه الآخر للعمليات الفردية، والتي بمجملها تشكل رداً على محاولات ترويج ثقافة الهزيمة وقلة الحيلة والانقسام من ناحية، وإعلاء الإرادة الشعبية بالتمسك غير القابل للمساومة على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني من ناحية أخرى.
في دراسة أجراها مركز الأرض للأبحاث والدراسات و لسياسات عام 2016، وكان قد أصدرها في كتاب بعنوان «الشباب الفلسطيني/ المصير الوطني ومتطلبات التغيير» وأشرف عليها عالم الاجتماع جميل هلال، حول دوافع الأجيال الشابة التي وقفت خلف ما عرف بعمليات الدهس والسكاكين، وفيما إذا كان ذلك بداية رد على تفكك الحركة الوطنية لجهة بلورة أنوية لحركة وطنية جديدة، كانت الإجابة الحاسمة من محيط وبيئة هؤلاء الشبان الاجتماعية والعمرية، أنهم في وقت يشعرون فيه بسلب حقوقهم، وبحالة عميقة من الإحباط، والإجماع على غياب من يمثلهم ويقود ويدافع عن طموحاتهم، فإنهم يشعرون بالمسؤولية لأخذ زمام مصيرهم بأيديهم، ولكنها، أي الدراسة، كشفت أن مسألة التحول من مثل هذه الحركات إلى حركة شبابية أو وطنية شاملة، ورغم ما تلاها من هبة شاملة ضد البوابات الإلكترونية التي فاجأت الجميع من حيث قوتها وانضباطها وسلميتها عام 2017، لم تنضج بعد. وظل السؤال حول سبل تجاوز حالة الوهن والتفكك لسبل مواجهة الغطرسة الإسرائيلية للمضي قدماً بمخططاتها التصفوية، وارتفاع شهيتها لذلك في محاولة للخروج من مأزقها الحكومي والاستراتيجي، والانشغال الكوني في الحرب الأوكرانية.
عمليات رد الفعل في حد ذاتها لا تشكل الاستراتيجية الكفاحية البديلة المطلوبة، رغم ما تلحقه من وجع في المجتمع الإسرائيلي وأوساط المستوطنين، وتظهر فشل المؤسستين الأمنية والسياسية، بل هي نتاج غياب أي استراتيجية موحدة، وهي تشكل رسالة قوية للمنقسمين لمراجعة ومغادرة مواقفهم الانقسامية الفئوية، وما ألحقته من ضرر بالقضية الوطنية، وتجرؤ المحتلين على حياة الناس ومستقبلهم ومصادر رزقهم. وكما يبدو أن ملامح إجابة عن واقع الحركة الوطنية باتت تلوح بالأفق من قبل الناس التي سئمت الانقسام والانقساميين، وهي تستدعي من المهيمنين على المشهد أن يغادروا العنتريات وقلة الحيلة على حد سواء، وأن يلتحقوا بدرب الإرادة الشعبية ومدِّها بالأمل، في السياسة والاستراتيجية وآليات الحكم الصالح الذي يستجيب لاحتياجات الناس وقدرتها على الصمود.