داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

التقدم محتمل... لكنه غير محتمل

قليلون في العالم العربي يستطيعون كتابة أو تلفظ اسم أصغر دولة في أوروبا، وهي إمارة ليختنشتاين، وتقع بين النمسا وسويسرا على جبال الألب، وعاصمتها فادوز، ولغتها الألمانية. عدد سكانها نحو 40 ألف نسمة، ومساحتها 160 كيلومتراً مربعاً، وعملتها الفرنك السويسري. وتم قبولها عضواً في الأمم المتحدة عام 1990. ويقال إن تاريخها يعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط، وكانت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية. وهي تشتهر بأن معدل الجريمة فيها يُعتبر أدنى معدل في العالم، وآخر جريمة قتل حدثت هناك منذ أكثر من 20 سنة. وهي دولة لا تمتلك جيشاً؛ لذلك حين قام عدد من جنود سويسرا سهواً عام 2007 بغزوها، لم تلاحظ الإمارة ذلك، وقرأت الخبر في صحف اليوم التالي! ومن عيوبها النادرة أن أكثر من نصف العاملين فيها يضطرون إلى السكن خارج الإمارة بسبب تكاليف المعيشة العالية فيها. واسم الإمارة مأخوذ من لقب أحد أمرائها السابقين.
وقد قفز اسم ليختنشتاين إلى صدارة الصحف العالمية قبل أيام، بعد أن قدمت اقتراحاً جريئاً قبل عامين إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لإلزام الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، وروسيا، والصين) بتبرير أي استخدام لحق الاعتراض أو النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. وقد قوبل الاقتراح بتبنيه من قبل الجمعية بالإجماع وبالتصفيق الطويل باعتباره إنجازاً تاريخياً، من دون أن يلغي أو يقيد صلاحية النقض للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. واتخذت الجمعية العمومية قراراً بوجوب الاجتماع العام بعد كل مرة يتم فيها استخدام حق النقض في مجلس الأمن لكي تعلم أسباب أو مبررات الفيتو المستخدم من قبل هذه الدولة أو تلك. علماً بأن أكبر دولتين استخدمتا الفيتو هما روسيا في الدفاع عن النظام السوري الحالي والولايات المتحدة في الدفاع عن إسرائيل وجرائمها وحروبها وعنصريتها.
ومن المقترحات الجديدة عدم اقتصار عضوية مجلس الأمن الدائمة على الدول الخمس الحالية، وقد ورد في المشروع الإصلاحي منح العضوية الدائمة أو الدورية لدول أخرى، وفي الملف أسماء اليابان وألمانيا والهند والبرازيل. كما يمكن تحديد رقم معين لا يسمح بتجاوزه لعدد مرات استخدام الفيتو لكل دولة خلال سنوات محددة.
وكالعادة وقف المندوب الروسي في الأمم المتحدة ليقول: «لا يمكن تجريدنا من فيتو مجلس الأمن»! لم يتحدث أحد عن تجريد أحد من الخمسة الكبار من الفيتو، أو على الأصح «الاعتراض» على أي قرار لمجلس الأمن، لكننا نتحدث عن ضرورة إقناع الجمعية العامة بالأسباب الموجبة للرفض.
من حسنات جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي أن نظاميهما ليس فيهما حق «الفيتو» لهذه الدولة أو تلك، فالقرارات تصدر بالإجماع أو الأغلبية. ما يجدر بالملاحظة أن دول الفيتو الخمس تمتلك أسلحة نووية. ويبدو أن حيازة هذه الأسلحة شرط أساسي غير معلن للحصول على حق النقض. ولو صح هذا الأمر، فإننا سنرى في المستقبل القريب إسرائيل عضواً دائماً في مجلس الأمن، وتمتلك حق «الفيتو» لرفض أي شكوى فلسطينية أو عربية ضدها. وفي الواقع تحول «الفيتو» إلى سلاح خاص لدفاع الدول الخمس عن مصالحها، وليس الحفاظ على الأمن والاستقرار والسلام الدولي، وهي بهذا التفسير تمنح نفسها سلطة إجهاض مشروعات القرارات والتشريعات قبل إقرارها، وليس مجرد اعتراض أو طلب إجراء تغيير في القرار أو القانون، فروسيا استخدمت حق النقض في مجلس الأمن لمنع أي إدانة دولية لحربها ضد أوكرانيا. وكانت الصواريخ والدبابات والمدرعات الروسية أكثر سرعة من جفاف الحبر الذي كُتب به مشروع طلب إيقاف الحرب.
ولعله من المفيد استعادة ما جرى عشية الحرب الأميركية على العراق في عام 2003 حين رفضت رئاسة مجلس الأمن، وكانت في حينها ألمانيا، والأعضاء الدائمون؛ روسيا وفرنسا والصين، شن الحرب، مقابل إصرار الولايات المتحدة وبريطانيا على الحرب الفورية. لكن أحداً من دول مجلس الأمن لم يلجأ إلى «الفيتو» ضد قرار الحرب، واكتفوا بـ«القلق وعدم الارتياح» إزاء الغزو العسكري الأميركي البريطاني واسع النطاق والقصف الصاروخي المنهمر.
في معظم الأحوال التي تُقرع فيها طبول الحروب ليست هناك فاعلية لحق النقض من قبل الدول الداعية إلى حلّ المشكلات الأمنية المعقدة بالطرق الدبلوماسية، وأمامنا ما جرى في العراق وسوريا وما يجري في أوكرانيا.
وبالعودة إلى تعبير «نقض» الشائع، فإنه لم يرد في ميثاق الأمم المتحدة، وإنما ورد لفظ «حق الاعتراض». وهذا الاعتراض الذي لا يستطيع أحد في مجلس الأمن أو الجمعية العامة رفضه، يعني استحالة إسقاطه، حتى لو أراد ذلك بقية أعضاء مجلس الأمن. ولذلك، سيظل هذا «الفيتو» مثار جدل دائم، لأنه في حقيقة الأمر يمنع أي تحرك فعلي من قبل الجمعية العامة التي يرى بعض أعضائها أن الفيتو «داعم للاستقرار الدولي»، بينما يرى آخرون، وهم الأغلبية، أن حق النقض هو «أكثر العناصر غير الديمقراطية» في الأمم المتحدة، لأنه يمنع أي تحرك سياسي ضد الدول الخمس.
وتذكر سجلات مجلس الأمن أن الاتحاد السوفياتي قبل انهياره عام 1991 كان يستخدم الفيتو بشكل واسع بين عامي 1957 و1985 إلى درجة أن الجمعية العامة أطلقت على وزير الخارجية السوفياتي الشهير آندريه غروميكو اسم «السيد نيت» أو «السيد لا». وقد تم نقل حق النقض إلى الأمم المتحدة من «عصبة الأمم» بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945.
وللرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين وصف لافت، أطلقه على الفيتو، بقوله: «إن مؤسسي الأمم المتحدة اتسموا بالحكمة العميقة، لأن حق النقض أساس للاستقرار الدولي».
باختصار؛ إن الفيتو قَسَمٌ مثل قَسَم أبقراط، الملقب بـ«أبي الطب»، الذي يؤديه الأطباء الجدد قبل ممارستهم المهنة، عن «المسموح والممنوع»، لذلك يستحسن ألا تسبب قرارات الأمم المتحدة أي أذى، وإن كان ذلك عسيراً.
هنا ينطبق المثل الفرنسي الفلسفي القائل: «التقدم محتمل... لكنه غير محتمل».