جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

أُحجيةٌ لُغزية ليبية

لا أعرفُ ترجمة عربية ملائمة للعبة المسماة باللغة الإنجليزية (Jigsaw). وما وجدته مُعرّباً في المعاجم المتاحة لم تستغه ذائقتي اللغوية. لسبب ذاته، اخترت أن أسميها «أحجية لُغزية»، وهي لعبة معروفة ومنتشرة، وتتكون من صورة مطبوعة على ورق مقوى، ومقصوصة إلى قطع صغيرة غير متساوية الأحجام، ومختلفة الأشكال. ومهمة اللاعبين أن يخمّنوا المكان الصحيح لكل قطعة منها، لكي تكتمل الصورة وتتضح.
ولو اشتط بنا الخيال قليلاً، وحاولنا أن نحوّل الصراع على السلطة في ليبيا إلى لعبة «أحجية لغزية - Jigsaw»، فإن محاولاتنا لن يكتب لها النجاح لسببين؛ الأول استحالة عمل صورة ثابتة؛ لأن الوضع الليبي متقلب، ولا يثبت على حال، واللاعبون يتنقلون وثباً، وفق ما تمليه مصالحهم الشخصية، من موقع إلى آخر. والآخر أن أي نسخة ليبية مقترحة لن تشمل أي قطع ذات صلة بالانتخابات؛ لأن الصانعين والضالعين في الأمر سيسعون إلى حذف كل ما له علاقة بها من اللعبة؛ نظراً لما تسببه لهم من حساسية مفرطة وتوتر استثنائي لا يقارن. وهذا لا ينفي حقيقة أنهم يرددونها طيلة الوقت في وسائل الإعلام، مؤكدين ضرورتها لأي وضعية استقرار مأمولة، قد تخرج بالبلاد من حالة الفوضى، التي غرقت فيها منذ أكثر من عقد من الزمن.
والحقيقة التي يعرفها الجميع، في ليبيا وخارجها، هي أن القوى المسيطرة على الأرض، رغم اختلافاتها، تلتقي جميعها في مربع واحد: معارضة إجراء انتخابات جديدة، برلمانية أو رئاسية، والحفاظ على الحالة الراهنة.
وعلى سبيل المثال، فإن الأزمة المحتقنة حالياً بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية وحلفائه، ومنافسه رئيس حكومة الاستقرار المكلف وحلفائه، حول من منهما أحق بترؤس الحكومة، لا هدف من ورائها، في رأيي، إلا سدّ كل المنافذ أمام إجراء انتخابات جديدة، عقب عملية الإجهاض القصدي التي تعرضت لها الانتخابات المقررة في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ادعاءات الطرفين برغبتهم في إجراء انتخابات في أقرب وقت، موجهة للاستهلاك الإعلامي لا غير.
الأزمة الليبية، منذ بدايتها، سارت في منحنيات، صعوداً وهبوطاً، إلا أنّها، هذه الأيام، دُفعت نحو منحنى آخر، تميّز، حتى الآن، بعدم اللجوء إلى استخدام السلاح، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، اللجوء إلى الثروة النفطية، وحشرها في المعركة كسلاح، بإقفال آبار إنتاج النفط، والغاز وموانئ تصدير الخام النفطي. الوضع الجديد اضطر المؤسسة الوطنية العامة للنفط، إلى الإعلان عن حالة القوة القاهرة. وبناءً على ذلك ارتفع سعر الخام النفطي في الأسواق الدولية فورياً.
عديد من الأسئلة تفرض حضورها: من أمرَ بالإقفال؟ ولماذا اللجوء إلى الإقفال الآن، وأسعار الخام النفطي في السماء، وحرمان الخزينة الليبية من إعادة بناء احتياطي نقدي يعيد لها ما فقدته، وإلى متى سيستمر الإقفال، ومن يتحمّل تبعاته؟ الليبيون في مختلف مدن ومناطق ليبيا يعرفون مواقع الإنتاج النفطي، وموانئ تصديره، ويعرفون من يسيطر عليها بقوة السلاح. المضحك والمبكي، في آن معاً، هو أن رئيسي الحكومتين المتنافسين صرّحا بإجراء تحقيق لمعرفة من تسبب في ذلك! وممثلة الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص إلى ليبيا السيدة ستيفاني ويليامز تبدو خارج المكان والزمان.
البعض من المراقبين الليبيين يرون أن الموقف الحالي ازداد تعقيداً، بدخول النفط كسلاح في المعركة، وسيؤدي بالوضع إلى تفاقم حالة الاحتقان الحالية؛ مما يؤدي إلى خروجه عن السيطرة، وبالتالي الانفجار. وهم يتوقعون ذلك بعد نهاية شهر الصيام وإجازة عيد الفطر. البعض الآخر يقول، إن الحالة التي فرضتها الحرب في أوكرانيا على الساحة الدولية، لا تسمح باشتعال حرب أخرى في ليبيا. ويراهنون على الدور الأميركي، وما يقوم به السفير ريتشارد نورلاند من جهود، لمنع اشتعال نار الحرب. وأن الوضع سيبقى على ما هو عليه، مؤقتاً حتى مع توقف إيرادات النفط. ويتفق الطرفان على أن الانتخابات النيابية والرئاسية الموعودة في شهر يونيو (حزيران)، أضحت غير ممكنة التحقق واقعياً.
رئيس مجلس النواب، زاد متعمداً في تفاقم حالة الاحتقان، بإصداره مؤخراً قراراً يمنع الوزارات والمؤسسات الليبية من التعامل مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة. والسيد الدبيبة بدوره لا يتوقف عن التصريح في وسائل الإعلام بأن الحديث عن تسليم السلطة إلى حكومة أخرى غير منتخبة وهمٌ من الأوهام، ومضيعة للوقت والجهد. ورئيس أركان الجيش اللواء محمد الحداد أكد مؤخراً أن الجيش لن يسمح مطلقاً بدخول البلاد في حرب أخرى، أو محاولة زجّه فيها. كما أن الموقف بين الحكومتين المتصارعتين أفضى إلى حالة من انقسام غير معهود، على مستوى عديد من المدن، وخاصة في مدينة مصراتة، التي ينتمي إليها عبد الحميد الدبيبة وفتحي باشاغا. وقادة الجماعات المسلحة ولاؤهم دائماً لأنفسهم ومصالحهم. وإنْ كان بعضهم، وفق الشائعات، يقفون ضد اشتعال حرب في العاصمة، وينصحان المتنافسين بالالتقاء في مصراتة، وبحضور أعيان المدينة وقادتها العسكريين، وحل المشكلة بالتفاوض.