أحمد محمود عجاج
TT

حرب أوكرانيا ومصير الليبرالية الغربية

منذ انبعاث روسيا بقيادة بوتين، وصعود الصين تحت قيادة تشي، بدأ التشكيك بالليبرالية وبمدى صلاحيتها لتكون نموذجاً عالمياً؛ لم يقتصر التشكيك على هؤلاء، بل جاء من داخل الليبراليات الغربية مع ظهور الشعبوية، وصعود اليمين المتطرف، ودعواته المبطنة للقومية الدينية أو العرقية.
ولعبت أزمة المهاجرين السوريين دوراً في الساحة الأوروبية، لدرجة أن اليسار، واليمين الوسط اضطرا، لدواعٍ انتخابية، إلى اتباع سياسات شعبوية معادية لمبادئ الليبرالية. هكذا بدت الديمقراطية الليبرالية هشة، وبدأت دول كثيرة كانت تطمح لأن تكون في النادي الليبرالي بالانسحاب منه تدريجياً، والتوجه نحو النموذجين الصيني والروسي. ثم جاء الرئيس بايدن بعد هزيمة ترمب ليوقف هذا الانحسار، ويعلن أن الديمقراطية الليبرالية قادرة على الثبات والانتصار، وأطَّر الصراع مع الصين وروسيا بأنه صراع بين السلطوية والديمقراطية؛ وبهذا أصبحت لليبرالية قضية، وتحولت من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم.
الليبرالية، خلاف السلطوية، ميزتها أنها لا تفرض على الناس طريقة معينة ليعيشوا حياتهم، بل تترك لكل فرد في المجتمع أن يعيش كما يشاء، وتنحصر مهمتها في الحفاظ على سلامة الحياة، وضمان استقرار الأمن في المجتمع، بينما الأنظمة السلطوية تتأسس على رابطة العرق أو الإثنية أو الدين؛ ومن هنا نرى كيف تتعامل الصين مع أقلية الإيغور مثلاً، وكما يحدث في ميانمار مع الأقلية المسلمة؛ فالأنظمة السلطوية تنزع إلى استرجاع الهوية التاريخية، والثقافية، وإعادة فرضها على المجتمع، بينما الأنظمة الليبرالية تحاول بناء هوية جامعة حول مبادئ سياسية مثل الانفتاح، والاعتدال، والقبول بالآخر.
هذا التوجه السلطوي مثَّله إعلان الرئيس الروسي بوتين، في تبريره لاجتياح أوكرانيا، بقوله إنه لا يوجد شيء اسمه أوكرانيا، وأن الشعب الأوكراني تاريخياً هو جزء من الشعب الروسي، وأنه سيخلصه من النازية والتبعية للغرب؛ وشاركه في هذا المنطق رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو كيرل بقوله إن الحقيقة الصارخة أن الشعب الروسي والأوكراني والبيلاروسي، يجب أن يُوحدا كشعب روحي واحد، وأن اجتياح أوكرانيا هو جزء من الصراع الميتافزيقي (الديني) ضد حضارة الغرب المتحللة أخلاقياً لكونها تعبد المادية والعولمة الاقتصادية والترويج للمثلية.
إن رفع شعار القومية والعرق والدين في وجه الليبرالية المترنحة، أسهم في إحداث خرق بعقر دار الليبرالية الأوروبية، ففاز في المجر رئيس الوزراء الشعبوي أوربان بأغلبية ساحقة، وفاز في صربيا المتشدد ألكساندر فويتيتش، وفي فرنسا نالت المرشحة اليمينية ماري لوبان نسبة 24 بالمائة من الأصوات، لتنافس ماكرون في الجولة الثانية؛ هؤلاء جميعاً، مثل بوتين، ينطلقون من الأسس نفسها؛ وهي العرق والقومية، والإثنية والثقافة الممزوجة بالدين؛ لذا رأت المرشحة ماري لوبان أن بوتين قد يكون حليفاً لفرنسا بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا، وصرح أوربان بأنه لن يسمح بنقل أسلحة عبر بلاده لأوكرانيا. هذا يؤكد أن الليبرالية لا تواجه تحدياً فقط من الصين أو روسيا، بل من داخل مجتمعاتها متمثلاً بالسلطوية المنتخبة ديمقراطياً؛ ومن نتائج السلطوية على المستوى الدولي تراجع الإيمان بسلطة عليا للقانون الدولي، وشرعنة السياسة الواقعية التي تبرر لدولة أن تغزو أخرى، ولحكومة داخل دولة أن تتنكر لحقوق الأقليات، وأن تضهد المغايرين تحت شعار الثقافة الجامعة أو الدين أو العرق وسيادة الدولة. سيادة هذا المفهوم ستؤدي حتماً إلى التآكل الليبرالي، وإلى تراجع الإيمان بالعولمة، وصراع الثقافات على المستوى الداخلي والعالمي، وسيمهد إلى تغيير كبير في النظام العالمي القائم؛ هذا التغيير ليس بالضرورة أن يكون خيراً، إنما قد يبشر بعودة لصراع الأمم، عبر الحروب، كما كان الحال، في القرن التاسع عشر. وإذا تحقق ذلك فإنه سيؤدي مع الوقت إلى أفول سيادة الولايات المتحدة، وإلى تداعي الأسس الليبرالية التي تزعمت بها أميركا العالم؛ وسيؤدي إلى هيمنة الصين كنموذج رأسمالي ذي ثقافة قومية، معادية لليبرالية؛ ولكيلا يتحقق ذلك تبذل الولايات المتحدة أقصى ما بوسعها لمنع هذا المسار، ولن تسمح لبوتين بأن ينتصر انتصاراً كاملاً في أوكرانيا، ولا للصين أن توسع نفوذها في شرق وجنوب آسيا.
في هذه المحاولة الأميركية، يرى من يتابع تصريحات المسؤولين الأميركان أن الإدارة الأميركية تركز في المواجهة، على استخدام أوصاف مشينة مثل وحشية الرئيس بوتين، ومحاكمته بجرائم الحرب، ووصف حربه بالعدوان، وتخيير الصين بأن تكون إما مع بوتين المنتهك للقانون الدولي، أو مع الدول المؤمنة بقدسية القانون الدولي وحقوق الإنسان؛ هذه الأوصاف، وما يرافقها من صور تبثها وسائل الإعلام الليبرالية عمَّا يجري في أوكرانيا، تجد آذاناً صاغية لدى شعوب الغرب، وخلقت واقعاً جديداً حَملَ أوروبا، رغماً عن بعض قادتها، إلى التحرك ومجاراة الولايات المتحدة، بل إن بعضها، مثل فرنسا، أرسل فريقاً للتحقيق في جرائم الحرب المزعومة في أوكرانيا؛ كما أن أوروبا، المؤمنة بالتغيير عبر التجارة، شمرت عن ساعديها وبدأت تتسلح، مثل ألمانيا، إيماناً منها بأن نظامها الليبرالي في خطر؛ هذه التحركات رافقها تأييد شعبي في أوروبا، ما سيسهم بلا شك في وقف الشعبوية داخل المنظومة الأوروبية؛ هذا المد الليبرالي لن يحبطه نجاح أوربان المرحلي، لأن نجاحه يعتريه شكوك؛ منها تلاعبه في توزيع الدوائر الانتخابية، وهيمنته على الإعلام، والمحسوبيات؛ وسيصبح أوربان محاصراً من الاتحاد الأوروبي، ولن يستطيع إقناع شعبه بالتوجه شرقاً.
لا شك أن حرب أوكرانيا، رغم مآسيها، أعادت الليبرالية مجدداً للواجهة، وجعلت منها رافعة لحرب جديدة عنوانها: دول الاستبداد مقابل الديمقراطيات؛ هذه المواجهة، في حال فشل روسيا في تحقيق أهدافها كاملة، ستكرس من جديد عودة أميركا لتزعم العالم، ومعها ستبقى الليبرالية الشعار الأوحد، ولن تستطيع الصين، ولا غيرها، بعد ذلك، أن تشكك فيها، ناهيك بأنها ستهز دعائم ساريتها لزمن طويل.